تفجير في ملهى ليلي للمثليين في مدينة أورلاندو، تفتح الأخبار والمقالات، كلٌ يلقي باللوم على الآخر. المحافظين يلومون الليبراليين على مجاملتهم للمسلمين، والليبراليين يلومون المحافظين على قوانين السلاح. وبين سطحية هذا وحماقة ذاك، بين المحاولات لاستغلال هذه الحادثة وغيرها من الأحداث المؤسفة لأغراض سياسية، يقف الضحايا كل مرة في وسط ذلك ويصرخون "تبًا لكم جميعًا!"
أنا شاب سعودي مثلي، أكتب خلف اسمٍ مستعار، لكني قد أكون من أي جنسية خليجية أو عربية أخرى. أسكن في مدينة أورلاندو، فلوريدا. فجر اليوم، حصلت أحداث مؤسفة في مدينتي سمع الجميع عنها، قام فيها أمريكي من أصلٍ افغاني يدعى عمر متين باطلاق النار بين جموع المثليين، ليزيد عدد الضحايا عن المئة بين قتيلٍ وجريح.
تعج مدينة أورلاندو بالعرب عمومًا، والخليجيين على وجه الخصوص. وبما أني أكتب خلف اسمٍ مستعار، فلا أحد يعلم هويتي، قد أكون ابن لأي أم أو أب لديه ابن يسكن في هذه المدينة. لنجعل الأمر شخصي أكثر، إن كان لديك ابن في أورلاندو، فقد أكون هو.
ولكن لنوسع الدائرة قليلًا، لماذا أورلاندو على وجه التحديد؟ قد أكون في أي مدينة في الولايات المتحدة أو أوروبا حيث تحترم حقوق المثليين. وقد أكون معتادًا، كما كنت في السنوات الماضية، على زيارة النوادي الليلية في عطلة نهاية الاسبوع. وقد يتواجد في مدينتي عمر متين كالذي تواجد في أورلاندو! وأيضًا، بما أني مجهول، فقد أكون ابنك الموجود في واشنطون أو لندن!
كعادتي، بقيت ليلة البارحة في منزلي، الذي يبعد عن نادي بولس الليلي للمثليين قرابة العشرين دقيقة فقط. لا أذكر متى خلدت إلى فراشي، ولكن كان الوقت قريبًا من منتصف الليل. تلقيت أثناء نومي الكثير من الرسائل التي ايقظتني؛ لم اقرأها، جعلت هاتفي صامتًا، وعدت للنوم. استيقظت صباح هذا اليوم وهاتفي يصدر اصوات مزعجة بسبب الاهتزاز، كان أحد اصدقائي يحاول الاتصال بي، ليطمئن علي، واخبرني حينها بما حصل.
لم آخذ الكثير من الوقت حتى اتصل والدي ليطمئن علي، واخبرته أني باحسن حال وأني كنت في المنزل، ولكني لم أكمل ما أردت قوله …
ما أردت قوله هو أن رهاب المثلية ظاهرة اجتماعية أعم بكثير من شخص يذهب ليطلق النار في ملهى ليلي للمثليين، هي تفعل غير ذلك: تحث على عدم احترام المثليين وحقوقهم؛ بل وتحث على رفضهم من قبل أهاليهم سواء كان ذلك تحت مبررات دينية أو اجتماعية أو غيرها. حينما يلاحظ أحد الآباء أو الأمهات أن ابنه مثلي، يرفضون ذلك، ولو حاول هو اخبارهم لكرهوا تلك الحقيقة، وحاولوا بكل ما لديهم تغييره، ولن يتغير.
ما أردت قوله هو أن حادثة اطلاق النار لم تأتي من فراغ، أن رفض الأهل لابنائهم المثليين يغذي هذه الأفعال الإجرامية. رهاب المثلية، وإن لم يقدم أغلب الأهلي على قتل أبنائهم بسببه، يغذي ثقافة أن المثليين يجب قتلهم. وسيخرج لنا عمر آخر يذهب لنادٍ ليلي، أو لمسيرة فخر المثليين، ويقتل المثليين بشكل عشوائي!
ما أردت قوله .. هو أني قد أكون ابن أي أحد منكم، قد أكون في ذلك النادي الليلي، وبسبب رفضكم الذي ينتج هذه الأفعال، قد أكون أحد الضحايا .. سأكون ضحيتكم، بشكل أكثر مباشرة مما تتصورون.
قبل بضعة اسابيع، في زواجي، لم يكن هنالك أي فرد من عائلتي، كان في قلبي غصة من ذلك، نسيتها، أو تناسيتها، بسبب سعادتي بحضور صديق، وصديقة أتت من السعودية لتقف بجانبي. لا نريد منكم الكثير، نريد أن نشارككم في أفراحنا، أن تقبلوا من نحب، نريد أن نعيش كما يحق لغيرنا أن يعيش بين أهله من دون رفض.
ليس التعرض لإطلاق النار من قبل أحمق يريد "تطهير الأرض من الشواذ" في نادٍ ليلي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تفقد فيها ابنك أو ابنتك المثليين. بالأمس، في أحد المدن السعودية، حاول أحد الترانسجندر الانتحار، لحسن الحظ تم تدارك الموقف. قد يكون ذلك الشخص ابنك من غير أن تعلم، وما أردت قوله هو أن لدينا الكثير لنقوله، ولكن هل لديكم آذان تسمع، وعقول تقبل، قبل فوات الأوان؟
كتبت هذه الرسالة قبل أشهر، واليوم، بعد سماع خبر الأب الذي قتل ابنه، أجد في نفسي دافعًا لنشرها. هذه الرسالة، وإن كانت بسيطة العبارة، فهي نقد عادة اجتماعية أراها تعاني من مشاكل كثيرة، بر الوالدين وحقوقهما. قراءة ممتعة.
أهلي الأعزاء،
تربيت، كما تربيتم، على احترام الوالدين والبر بهما. وهو أمر حسن لا خلاف. تعلمت أن الوالدين يجب برهما بسبب أنهما من أنجباني، فضلا عن الأمور الأخرى من رعاية وغيره. فالوالدان، حسبما تعلمت، مستحقان للاحترام بسبب حقيقة كونهما والدين. تعلمت أيضا أن من احترام الوالدين وحقهما هو الطاعة، بل ويصل الأمر إلى أن يكونا ملاك لأبنائهما وما يملكون؛ فكما يقول محمد: “أنت ومالك ملك لأبيك”.
فيما تربيت، كما تربيتم، عليه مشكلتان حسبما أرى: الأولى في السبب وراء استحقاق الوالدين للبر والطاعة والاحترام، والثانية في حدود ما لهما.
إن جعل فضلكما في مجرد كونكما والدي، بمجرد حقيقة أنكما انجبتماني، أمر خاطئ. لا فضل لكما في إنجابي، فهو ليس فضلا أصلا. هذا لا يعني أنه لا فضل لكما، الفضل موجود ولكن ليس في إنجابي.
لم أختر أن تنجباني، لم اتوسل إليكما قبل وجودي أن تحضراني من لانهائية العدم إلى هذا الوجود المحدود المقيت. بالتالي، أنتما لم تقدما لي أي شيء بإنجابي. على العكس، وجودي حتى الآن هو فضل لي عليكما، فأنتما لم تنجباني إلا اتباعا لغريزتكما النابعة من جيناتكم الغير واعية التي تحاول البقاء عن طريق نسخ نفسها ليحملها تعيس آخر، وصبري على تعاسة هذا الوجود هو فضل لي لأني اساعد في بقائكما. إذن، لا فضل لكما بمجرد الإنجاب .. بمجرد كونكما أب وأم.
إن جعل سبب فضل الوالدين في مجرد كونهما والدين بايولوجيين كارثة إجتماعية وثقافية، تقلب الأخلاق رأسا على عقب. فنرى في مجتمعنا تلك الفتاة التي تعنف، ولكن تتلقى النصيحة من الجميع متحدثين باسم الأخلاق والفضيلة: “مهما كان هذا أبوك، واجب عليك تبرينه.”
هل هذا ينكر فضل الوالدين؟ لا، ليس بالضرورة. فلا يزال لديهما أبواب أخرى يستطيعان من خلالها نيل الفضل والأحترام من ابنائهما. تقديم الرعية، الإحسان للأبناء وتربيتهم تربية حسنة واجب على الأباء القيام به، فهم من أنجب وهم من عليهم واجب الرعاية. ولكن هذه الرعاية الواجبة تضع رابط بين الآباء والأبناء فيصبح الأبناء “مدينين” لوالديهم برد الإحسان والرعاية والاحترام.
إن جعل فضل الوالدين في احسانهما لأبنائهما يقي المجتمع من الكوارث التي تحصل به حيث يصبح تصرف الأبوين اللاأخلاقي مبررا. لأنه إن ربط بإحسانهما فستقل الإساءات لعلمهم أن لا فضل لهم على الأبناء وأن عليهم أن يسعوا لينالوا ذلك. ولن نجد عبارات مثل “مهما كان هذا أبوك” بعد شكوى الفتاة من تحرش والدها بها، ف “أبوها زيه زي غيره” إن أحسن رد له الإحسان وإن أساء فعليه تحمل تبعات اساءته وليس عليها تقبل إساءته.
تلك كانت المشكلة الأولى، أما الثانية فهي كما ذكرت حدود ما لهما. يعتبر الأبناء لدينا، بقانون مكتوب أو غير مكتوب، ملك لأبويهم. ذلك الآخر كارثة وذريعة لمشاكل كثيرة. هنا، يتصرف الوالدان كما يريدان بالأبناء، ولا أحد يستطيع الاعتراض، فهم ملك لهما. ويا ليت الأمر يقف عند سوء المعاملة من ضرب وسوء تربية، بل يشمل أكبر من ذلك؛ فنرى جريمة ذلك المسخ الذي يغتصب ويقتل طفلة تمر مرور الكرام فقط لأنه والدها.
الأبناء خطيئة آباءهم، ابتلاء وضعوه لأنفسهم عليهم تحمل تبعاته. فهم من قررا الإنجاب، إنجاب كيان مستقل بذاته ولكن بحاجة لرعياتهما، ولم يكن ليحتاج إليها لولا أنانيتهما في إبقاء جيناتهما. لذلك، وللتبعات الأخلاقية السابق ذكرها، لا يملك الأبوين الأبناء، هما مسؤولان أمام المجتمع وأمام أبنائهم المستقلين على تقديم الرعاية اللازمة التي يحتاجونها لأنهم لم يكونوا ليحتاجوا إليها لولا حماقتهما بإنجابهم.
في عام 1931 كتب بيرتراند راسل مقال بعنوان الأناس الصالحين، تحدث فيه عن الأناس الصالحين في بريطانيا في القرن العشرين. واليوم، وبعد 85 سنة، أحببت أن أكتب مقالًا على ضوء مقاله. من هم الأناس الصالحين؟ يوجد الكثير من الصفات التي تفرق بين الصالحين من الطالحين، ولكن عدها بشكل نظري قد لا يكون ممتعًا. ولذلك سأحاول أن أذكر بعض الأمثلة على الأناس الصالحين.
نستطيع القول بأن صاحب المصرف الضخم، الذي يقال أنه بدأ تجارته كبائع جوال بسيط، من الأناس الصالحين. فهو لا يأكل الربا، ويتعامل بمصرفية إسلامية، ويتبرع بمبالغ ضخمة للمحتاجين، ويقال أنه قام بوقف ثروته أو جزء كبير منها لأعمال الخير. رجال الدين يتأكدون من سلامة أموال التاجر الصالح من الربا، وبعضهم يتأكد من خلوا قتل خادم الحرمين الشرفين لثلث الشعب من أي إشكال شرعي، فنستطيع القول أن رجال الدين بالعموم صالحين، عدى بعض الحالات الشاذة، والنادرة، من الذين يريدون أن يلقطون الشفة، أو يذهبون إلى المنطقة الغربية، المليئة بالفساد، لإعطاء محاضرة خاصة جدًا عن التلحيس لفتاة جامعية.
وبذكر الفتيات اليوم، يصعب أن يقال أنهن صالحات؛ فحين مقارنتهن بالفتيات سابقًا نرى بوضوح أن الصالحات بتناقص مستمر. في السابق، كانت الفتاة تطيع أهلها، ولا تعصي والدها، وتساعد والدتها في المطبخ، ولا تخرج من بيت أبيها إلا حينما يأتيها النصيب لتذهب لبيت زوجها، ومن بيت زوجها لا تخرج إلا لقبرها. أما اليوم، فكل فتاة تريد وظيفة، وتريد شهادة جامعية، ملقية بكل الأخلاق والقيم التي تربى عليها أجيال من قبلها، والتي ليس الغرض منها إلا حمايتها! فكما هو ملاحظ، الفتيات الجامعيات عرضة للفتن أكثر من غيرهن، واللواتي يعملن في المستشفيات لابد وأن يدخلوا في علاقات مباشرة مع من هم معهم في العمل ممن لا يحلون لهن من الرجال في تلك البيئة المختلطة! إن ذلك، كما قال أحد رجال الدين الصالحين، إضاعة للفتاة، فما حاجتها للمال؟ لا شيء؛ فعلى حد تعبيره لا حاجة لها بالمئة ألف ريال إن لم يكن لديها زوج أو ولد، فـ "حياة المرأة الحقيقية تحت كنف زوج وولد"، ليضيف "المرأة تدرس [ليس لكي] تتوظف، [بل] تدرس لكي تتعلم. المرأة إذا نجحت من الثانوي خلاص، أو إذا نجحت من ثالث متوسط خلاص، أنتهى الموضوع." وبالنسبة للمال يستطيع الزوج أن "يعطيها 400 ريال وخلاص" فهي خلقت لعبادة الله ثم خدمة زوجها، "أن تعيش رهينة البيت." ومما يدل على أن الفتيات اليوم لسن صالحات، عدى بعض العجائز اللوات يقفن على شفى حفرة من قبورهن، أن ابنة هذا الشيخ الصالح جامعية غير صالحة.
إن أبرز ما يقوم به الأناس الصالحين هو حماية الفضيلة، حماية أخلاقيات المجتمع من الانجراف وراء المغريات والملذات الدنيوية. نجدهم يطاردون هذه الفتاة المتبرجة لتخرج من السوق، أو يتأكدون من تغطية ذلك الفتى لساقه بينما يرتدون ثيابًا قصيرة تكشف سيقانهم، ولكن لغرض التقوى لا الزينة. يتأكدون من عدم فتح صالات للسينما التي ليست إلا محاولة لإفساد المجتمع عن طريق جمعهم في مكان مختلط وعرض أفلام هوليوود لهم بأعداد هائلة لتقوم بغسل أدمغتهم وتغريبهم بشكل جماعي، هكذا يقولون على الأقل. ومن الأمور الأخرى التي يحرص عليها الأناس الصالحين هي مسألة قيادة المرأة للسيارة، لا أعلم لماذا حقيقةً، ولكن لابد من وجود سبب مهم وراء ذلك يتعلق بحماية مؤخراتنا. يحرصون على عدم وجود تعارف بين الجنسين، فهي كما نعلم باب لعلاقات حب غير شرعية قد تنتهي نهاية مؤسفة والعياذ بالله؛ يصادرون الورد، ويحرصون على ألا يرتدي أي أحد اللون الأحمر في الرابع عشر من شباط/فبراير؛ ويجب ألا ننسى أنهم دائمًا يحاولون جهدهم لمنع الحفلات الغنائية، ويحطمون آلات اللهو أينما وجدوها وسط صرخات وأهازيج النصر .. الله أكبر.
كتب راسل مقاله في ثلاثينات القرن الماضي، بعد نهاية الحرب، بعد أن أصبح ملحوظًا أن أعداد الأناس الصالحين، وللأسف، قد قلت. فالناس تركوا الصالحين الذين كانوا بالسلطة وزجوا بشبابهم في حروب لا يعلم هدفها، ولكن من المؤكد أن الهدف منها كان لحماية أخلاق المجتمع الأوروبي. اليوم، في القرن الحادي والعشرين، وفي بلاد الحرمين، لا يزال، لحسن حظنا، الأناس الصالحين موجودين بكثرة، يقودون الرأي العام، ويتأكدون من أن يجز عنق كل من يتطاول على الله ورسوله، ويشجعون شبابنا بكل حرص على الجهاد والشهادة في سبيل الله؛ بل أنهم ومن شدة حرصهم على شبابنا نسوا أبناءهم، فنجد ابن أحدهم مبتعث في بلاد الكفر، وابنة الآخر محاضرة في أحد الجامعات بينما ينظر هو لبناتنا ألا فائدة من الجامعة. ليس ذلك نفاق أبدًا، إنما هو حرص زائد علينا، أرادوا الخير لنا حتى نسوا أنفسهم. ولكن مع الأسف، بينما نعيش اليوم في حروب يمحص الله فيها الناس، نجد أن ذلك أدى إلى ابتعاد البعض شيئًا فشيئًا عن الأناس الصالحين، وأتوقع أنه بعد أن تنقضي هذه الحروب والمشاكل التي نعانيها في العالم العربي سيحصل ما حصل مع أوروبا، وسيبتعد المجتمع من حول الأناس الصالحين، وقانا الله وأياكم شر ذلك اليوم. عودة للأناس الصالحين، إن كنا سننظر لما يجمعهم كلهم سويًا، فهم يشتركون دائمًا، في كل زمان ومكان، بصفة واحدة، ألا وهي معاداة ومحاربة السعادة .. أينما كانت.
سألني في مرة زميل لي يريد أن "يهديني" لطريق "الصواب"، "إن كنت ملحدًا، فلماذا لا تسرق؟" زميلي ذاك هو فرد واحد من جماعة كبيرة من المزعجين الحمقى تعتقد أنه من دون دين فلا وجود للأخلاق. يوجد ما هو أكثر ازعاجًا منهم، من يزعمون أن الأخلاق "نسبية". حينما يقول أحدهم أن الأخلاق نسبية فهو يعني، في الغالب، أحد أمرين، الأول هو أن الأخلاق ليست قوانين مطلقة مثل "لا تكذب"، "لا تسرق"، أو "لا تقتل". هنا الأخلاق نسبية بمعنى أن "لا تكذب" ليست أمرًا مطلقًا؛ فمن الأخلاق أن تكذب على طفلك، ذو الخمس سنوات، الذي على وشك أن يموت بسبب السرطان الذي أنتشر في جسمه حينما يسألك "هل سأموت؟"
هذا المعنى لقول أن "الأخلاق نسبية" سليم ولا شيء فيه، حسبما أرى على الأقل. الأمر المزعج، والذي قصدته في بداية هذا المقال، هو قول أن "الأخلاق نسبية" بمعنى أنها "مجرد رأي"، بمعنى أنه لا يوجد قوانين تحكمها، بمعنى أن لكل شعب، على سبيل المثال، أخلاقه الخاصة فيه، "نسبية حسب البلد" كما وضعها أحد الأصدقاء مؤخرًا.
يصف هذا الفريق رأيهم، عادةً، بأنه "علمي"؛ فهم، كما يدعون، يستندون على اكتشافات الانثروبولوجي وغيرها. ولكن أقصى ما يصل له هذا الرأي، في المسألة العلمية، أنه "هراء علمي".
قول أن "الأخلاق نسبية" في المعنى الثاني رأي غالبًا ما يكون متبنيه من اللادينيين، (سأفتح النار علي من قبلهم)، فبعد مغادرة الدين، كثيرون لا يسعون في تثقيف انفسهم بأمور كثيرة.
فتجد منهم من لا يزال متمسكًا بأخلاقه القديمة التي تربى عليها في مجتمعه، فترى بعضهم يعارض المثلية، على سبيل المثال لا الحصر، ويرى شرفه في ألا تضع أخته قضيبًا في فرجها حتى وإن كان حسب إرادتها. أو تجد منهم من يرى لعرقه، أو لون بشرته، أفضلية على غيره.
ومن هؤلاء اللادينيين أيضًا من يأتيك بنظام أخلاقي غريب مثل الاحتكام للطبيعة، أسلوب بدائي وأحمق لتحديد ما هو أخلاقي أو لا قد انتقدته بشكل تطبيقي مسبقًا في مقالين. إن ابسط اعتراض على الأخلاق حسب قانون الطبيعة ما طرحه ميل في مقاله عن الطبيعة. في ذلك المقال يوضح ميل أننا حينما نستخدم "طبيعي" فإننا نقصد أحد معنيين، الأول: كل ما هو موجود في الكون، بما في ذلك البشر وأفعالهم، وبذلك المعنى يصبح كل ما يقوم به البشر طبيعي. أما المعنى الثاني فهو ما يفعله البشر من تدخل في الطبيعة، ولا يمكن أخذ ذلك المعنى كاعتراض أخلاقي لأن كثير من أفعالنا، بما فيها معالجة المريض، عبارة عن تدخل وتعارض مع الطبيعة.
هنالك نوع ثالث من هؤلاء، من يأخذون وجهة نظر "علمية"، حسبما يقولون، ويرون أنهم "مخلصون للحقيقة مهما كانت قاسية". حينما نجتمع أنا وأصدقائي ممن نعشق الحديث في هذه الأمور نطلق عليهم مسمى “noobs” .. مبتدئون يأخذهم الحماس فيما يفعلون. سيتعلمون أكثر لاحقًا. (شخصنة؟ لا بأس، أتحمل تبعات ذلك).
ما يهمنا من هؤلاء هم النوع الأخير، أناس ينظرون للأنثروبولوجي، على سبيل المثال، فيرون تنوع الحضارات واختلافها في مسألة الأخلاق. في ثقافة معينة يمكن أكل البشر، وفي ثقافة أخرى، أكل لحوم البشر محرم أخلاقيًا. وبسبب أنهم أنكروا الدين، فلا مرجع موحد للأخلاق، وبسبب أن العلم لا يجيب على سؤال ’ماذا "يجب" علينا أن نفعل؟’، يذهبون إلا أنه لا وجود لما يسمى "أخلاق"، وأنها مجرد قوانين يضعها البشر غير محكومة بقانون معين متفق عليه من قبل الجميع، وبالتالي، حسبما يدعون، فهي نسبية ومسألة رأي لا أكثر.
نستطيع أن نرى هنا حجتين، الأولى اختلاف البشر في مسألة الأخلاق وعدم وجود ما يمكن أن يحكم بينهم ويخبرنا من الصائب ومن الخاطئ، والثانية هي أن العلم لا يخبرنا ’ماذا "يجب" علينا أن نفعل’. بالطبع هذا الكلام خاطئ، إن كنت ترى أنه يوجد أمر ما خاطئ فعليًا في نحر طفل رضيع لغرض المتعة فقط فتابع معي، أما إن كنت ترى مسألة خطأ نحر الرضيع لمجرد المتعة "مجرد رأي" لا أكثر، فالمقال ليس لك، لا تضع وقتك.
لنبدأ مع مثال نعرفه جميعًا، المجتمع المسلم. في المجتمع المسلم، من غير الأخلاقي أن تجمع المرأة أكثر من شريك جنسي واحد، إن أرادت رجلًا آخر فيجب أن يطلقها شريكها الأول، أو تطلب الخلع منه، وبعد ذلك يمكن لها الارتباط بغيره؛ في حين يمكن للرجل أن يفعل ذلك حتى اربع نساء. (يستثنى من ذلك رجل واحد في التاريخ، رجل تجاوز أربعة نساء وحصر الجميع بأربعة فقط).
في المثال السابق نرى أنه يمكن للرجل أن يعدد الشركاء، بينما إن فعلت المرأة ذلك فهي منحلة أخلاقيًا و "عاهرة". إن نظرنا في مجتمع آخر، في الولايات المتحدة مثلًا، فإن الغالبية ترى أن كلا الجنسين لا يحق له أكثر من شريك واحد، معاشرة المرأة لرجل آخر، أو معاشرة الرجل لامرأة أخرى، تعتبر خيانة، في الوسط المحافظ اليوم على الأقل.
في مقاطعتي يونان وسيشوان جنوب الصين تسكن قبائل مسالمة جدًا تدعى الموسو. لدى الموسو، خلاف ما اعتادنا عليه، المرأة هي محور العائلة، ولديهم يحق للمرأة أن تتعدد بالشركاء كما تحب. الجميل في المسألة هو أن قبائل الموسو مثال واحد من أمثلة كثيرة لما يحدث حينما تصبح المرأة هي محور المجتمع بدلًا من الرجل، هناك، امتلاك المرأة لحريتها وجعلها نواة المجتمع لم يجعلها تحدد حرية الذكور، عكس ما يحدث حينما يكون الرجل هو نواة المجتمع فنجده دائمًا ما يضطهد المرأة ويضعها في مرتبة أدنى منه. غريب أليس كذلك؟ لا، يوجد ما هو أغرب. الأغرب من ذلك أنهم، كما قلت، مسالمون جدًا، لدرجة أنهم لا يمتلكون في لغتهم كلمة مرادفة لكلمة "حرب"!
كما نرى، تختلف هذه الجماعات فيما تراه صائبًا، ولو سألنا كل جماعة لأعادوا المسألة إلى اساطيرهم وتراثهم. فيعيدهم المسلمون لـ "هذا أمر الله" ومن ثم تتوالى التبريرات لأمر الله مثل "عدد النساء أكثر من الرجال،" الذي نستطيع أن نقول أنه ادعاء باطل؛ أم المسيحيون فلا أعلم لأن الكتاب المقدس لا يمنع التعدد للرجال، ولكن لديهم مخرج من ذلك ليكون سببهم الدين ومن ثم، كسابقهم، تتوالى التبريرات مثل "المساواة" أو "الحب لشخص واحد فقط". أما الموسو فسينسبونها لأم الجبل ومن ثم تتوالى التبريرات أو الشروحات مثل "الطفل يحظى برعاية أكثر من قبل الجميع" أو "الحب كالفصول، يذهب ويعود من وقت لآخر". لا يوجد قاعدة مشتركة يمكن أن نستخدمها لنحدد الصائب منهم، كما يقول النسبي، بالتالي فهي "مجرد آراء".
كانت تلك الحجة الأولى لنسبية الأخلاق حسب الثقافات، الشعوب، الأشخاص، أو أيًا كان. ولنرد عليها نقول: اختلفت الشعوب والحضارات في مسألة وجود الكون، وجود الإنسان، وغيرها، ولكل منهم قصة مختلفة جوهريًا عن الآخر، وبعضهم يختلف في فرعيات. هل خلافهم جعلنا نقول أن مسألة وجود الكون مسألة نسبية؟ لا. اختلافهم في الحقيقة لا يعني أنه لا وجود لحقيقة منفصلة عما تراه تلك الشعوب والحضارات في مسألة وجود الكون.
هنا تأتي الحجة الثانية: لا يوجد حقيقة تجريبية تخبرنا ما هو الصائب من الخاطئ أخلاقيًا. بينما في مسألة وجود الكون أو الكائنات الحية يوجد حقائق تجريبية نستطيع الاحتكام لها. يجب أن أوضح أني هنا لا أقول بأن النظم الأخلاقية يمكن الوصول إليها تجريبيًا، تقدم الحقائق التجريبية بعض المساعدة حسب النظرية المستخدمة، لكنها لا تعطينا ما هو النظام الأخلاقي الواجب اتباعه. سبب ذكري لمثال وجود الكون هو لقول أنه "يوجد خلاف في تفسير الكون بين الثقافات، ووجود الخلاف ليس سببًا كافيًا لنقول أن تفسير وجود الكون نسبي حسب الثقافات. وكذلك الأخلاق، وجود خلاف بين الثقافات لا يجعل بذاته الحقائق الاخلاقية نسبية حسب الثقافات." بالإضافة إلى أن الحقائق ليست كلها تجريبية، من الصعب أن نقول أن الحقائق الرياضية تجريبية، هذا يعني أنه يوجد طرق أخرى للوصول للحقائق غير الطريقة التجريبية. هل هذا يعني أن الحقائق الأخلاقية يتم الوصول إليها بنفس الطريقة التي يتم الوصول باستخدامها إلى الحقائق الرياضية؟ لا. كل ما نقوله أن التجربة ليست الطريق الوحيد، ويمكن الوصول للحقائق عن طريق آخر، وأدعي وجود طريقة للوصول للحقائق الأخلاقية ولكن شرحها مسألة أخرى. وسواء وصلنا إلى الطريقة أم لا، فإن عدم وجود حقائق تجريبية، وخلاف الشعوب في الأخلاق، لا يعنيان بالضرورة عدم وجود حقائق أخلاقية.
وإلى مسألة أخرى، هل هذا يعني أن جميع الشعوب والحضارات قد أخطأت في أحكامها الأخلاقية؟ ليس بالضرورة. قد تصيب ثقافة ما في أمر، وتخطئ في أمر آخر في نظامها الأخلاقي. ومن الصعب لومهم على ما لم يعرفوه. لا نستطيع لوم شخص عاش قبل 1400 سنة بذل قصار جهده لمعرفة "لماذا تسقط الأجسام؟" فهو لم يكن على وعي بالنظرية النسبية العامة! وقد وصل لأفضل ما يستطيع. هذا لن يجعل ما وصل إليه صحيحًا، ولكننا لا نستطيع لومه على ما وصل له. كل يوم نكتشف المزيد من الحقائق الطبيعية، وكذلك الأخلاق، كل يوم نصبح أفضل ونصل لحقائق لم نكن على علم بها سابقًا. ليست الأخلاق هنا التي تغيرت، ولكن وعينا ومعرفتنا اللذان يزدادان يومًا بعد يوم هما السبب وراء فهمنا المتغير المتحسن.
ومن ذلك نستطيع أن نقول أنه لا يمكن الحكم على محمد أخلاقيًا إلا وفقًا لما هو متعارف عليه في بيئته. وما يسقط عليه من معرفتنا الأخلاقية اليوم لا أساس ولا معنى له. الأمر الوحيد الذي يصبح فيه لاستخدام الأخلاق ضد الدين معنى هو أدعاء أن الأخلاق تامه وكاملة، ويعلم جميع القوانين الأخلاقية التي يجب أن نعيش طبقًا لها، بواسطة ما نقله الوحي. هنا إن خالف الدين ما تعلمناه من تطور معرفتنا أخلاقيًا يجعل ادعاءات الدين الأخلاقية باطلة، وبما أن الدين لا يليق به أن يحتوي على ادعاءات باطلة إن كان صحيحًا ومن خالق الكون الخير والعليم، فإن الدين، بالتالي، باطل كذلك.
لم أجب هنا عن الطريقة التي يجب أن نستخدمها بتحديد الأخلاق، ولا يلزم فعل ذلك لإثبات أن نسبية الأخلاق غير مبنية على أدلة. شرح الطريقة أمر يصعب شرحه في مقال كهذا، ولكن، كما رأينا، أدعاء نسبية الأخلاق قائم على حجج لا تأخذنا إلى هذا الادعاء أبدًا. بل يمكن توفر ما يقولونه عن الأخلاق (1- مختلفة بين الشعوب و 2- لا يمكن تحديدها تجريبيًا) في حقائق أخرى، ويتوافق ذلك مع الاعتقاد بأنها حقائق منفصلة عن آراء الآخرين. يعمد عادة من يدعون نسبية الأخلاق إلى قول: "الأخلاق نسبية وتختلف بين الشعوب، يجب أن تحترم ثقافة كل شعب!" وبذلك يناقض نفسه، ويوجب علي أمر أخلاقيًا، احترام ثقافة الشعب الآخر، الذي يعني أنه يوجد أخلاق عامة يجب قبولها بين كل الشعوب.
"يوجد الكثير من الذين يعتبرون أي سلوك يكرهونه إيذاء لهم، ويمتعضون منه كما لو كان إساءة لمشاعرهم، كالمتعصبين الدينين حينما لا يلتزم غيرهم بتعاليم دينهم. ولكن لا يوجد أي مساواة بين مشاعر الشخص تجاه آرائه الخاصة، ومشاعر شخص آخر يشعر بالإهانة تجاه ما يحمله غيرهم من آراء، كما لا يوجد أي مساواة بين رغبة اللص في سرقة محفظة نقود، ورغبة صاحب المحفظة في المحافظة عليها." – جون ستيورت ميل
أثارت صورة تظهر محادثة افتراضية بين شاب وشابة تحارب الحريات الفردية وتنتقدها انتقاد بدائي بعض الضجة في مواقع التواصل الاجتماعي. الأمر الذي جعل الرد على نقد تلك الصورة حاجة على أحد القيام بها. على المستوى الثقافي، فإن الاعتراضات التي تقدمها سطحية وخرقاء جدًا، ولذلك، لن اعطيها أكبر مما تستحق وسأرد بشكل مختصر وسطحي يليق بعقلية من صممها.
لنفترض صحة أن كل فرد في المجتمع حر بما يقوم به. هذه نقطة بداية فقط وسنتقدم منها لتفاصيل أكثر، ولكن كبداية ذلك يكفينا. في مجتمع يعي أفراده أن كل فرد منهم يملك حق مساوي لغيره في التصرف، من وجهة نظر عادلة لا تميز بين أفراد المجتمع، فإن حرية كل فرد تتوقف حينما تتعارض مع حرية الآخرين، ذلك لأن في حال تعدى أحدهم على حرية شخص آخر فإنه يتناقض مع ما اتفقنا عليه مسبقًا بأن كل فرد في المجتمع حر بما يقوم به للسعي للأفضل له. مثال على ذلك، لو رأى أحدهم أنه حر في قلت شخص آخر لا يريد الموت فإنه يناقض ما اتفقنا عليه مسبقًا أن كل فرد حر فيما يقوم به، لأن القتيل انتزعت منه حريته في البقاء على قيد الحياة. بالتالي، قبولنا لأن كل فرد في المجتمع حر بما يقوم به يستدعي بالضرورة قبولنا بأن حرية الفرد تنتهي عند بداية حرية غيره.
الآن لنعد للصورة، تبدأ الصورة بالتالي:
الشابة: "أنا حرة، ألبس إلي أنا عوزاه."
الشاب: "وأنا كمان حر، أقول إلي أنا عاوزه."
حتى هنا لا يوجد مشكلة، هي حرة في التصرف، وهو حر في التعبير. ولكن يجب أن نوضح فارقًا مهمًا هنا لأننا سنحتاجه لاحقًا بين حرية الاعتقاد والتعبير وحرية التصرف. حرية التصرف أضعف من حرية التعبير، وليست مساوية لها. من حق النازي أن يعبر عن آرائه وإن لم تعجبنا، ولكن ليس من حقه التصرف طبقًا لها إن كانت تتعدى على حريات الآخرين. هنا حرية الشاب في التعبير لديها مساحة أكبر، بشكل عام، من حرية الفتاة في التصرف. ولكن يجب أن نعي أنه حتى حرية التعبير ذاتها تخسر مناعتها في حالات مثل الحالة التي يضعها جون ستيورت ميل: لو قال أحدهم أن التاجر الفلاني سبب في مجاعة الفقراء في كتاب، أو في صحيفة، فإن ذلك سيمر بسلام من دون الإضرار بحرية أحد. ولكن لا يحق له التعبير عن ذلك الرأي أمام جمع غاضب من الناس أمام منزل ذلك التاجر. وجب شرح ذلك. وعودة لنقطتنا، فإن كلاهما محق بما يزعمه من حرية.
الشابة: "أنا هطالب بقانون يمنع التحرش."
الشاب: "وأنا كمان، هطالب بقانون يمنع العري."
هنا تبدأ التخاريف والتخبط في فهم الحرية. من حق الفتاة ألا يعتدى عليها. ذلك حق مكفول بما أقررناه في البداية بأن كل فرد في المجتمع حر بما يقوم به، والتي نتج عنها أن حرية الفرد تنتهي عند بداية حرية غيره. إن من يتحرش في الفتاة يقدم على فعل يعارض حرية تلك الفتاة. فبالتالي، القانون الأول يضمن لها ذلك. لكن هل يضمن القانون أعلاه للشاب ما يطالب به؟ لا، هو يضمن له أن يطالب بقانون يمنع "التعري"، ولكن لا يجعله مقبول لأنه يناقض نفس المبدأ الذي جعله حر للمطالبة بما يريد بحرية، لأن القانون الذي يطالب به قانون يحد من حرية الآخرين التي لا تتعدى على حريته البتة. بالتالي، فإن ما يطالب به حماقة تناقض ما اتفقنا عليه بداية المقال. بعبارة بسيطة: له الحق في المطالبة والتعبير وتبيين أسبابه لذلك، ولكن ليس أكثر من ذلك، وتمرير قانون كهذا وتطبيقه يناقض ما اتفقنا عليه مسبقًا. لأنه كما قلنا لحرية التعبير مساحة أكبر من حرية التطبيق.
الشابة: "أنت لو مش عاوز تشوف مفاتني غمض عينك!!"
الشاب: "أنت كمان لو مش عاوزه تسمعي كلامي سدي ودانك!"
هل للفتاة الحق في أن تطلب منه أن يغمض عينه؟ ببساطة" نعم، إن كان لا يريد أن يراها فهو حر بأن لا يراها. ولكن ليس حرًا بأن يمنعها، لأن ما يضمن له حريته بأن لا يرها هو ذاته ما يضمن حريتها بأن ترتدي ما تريد. بالإضافة إلى أنه لا يوجد ضرر مباشر يقع عليه إن قامت بارتداء ما تريد عكس ما يزعم. له الحق في أن يطالب بالصحف بما يريد، لكن ليس له الحق في الاعتداء عليها في الشارع والتحرش بها سواء كان التحرش جسدي أو لفظي. في حال التحرش اللفظي مثال التاجر والجمهور يوضح الفرق.
الأمر الثاني هنا هو الأسلوب البلاغي المتابع. لاحظوا أنه جعل الفتاة تستخدم كلمة "مفاتن" الكلمة التي تثير هؤلاء الحمقى، فيوصل بذلك فكرة أنها "فتنة وفساد في الأرض"، بينما يحول كلمة "تحرش" إلى مجرد "كلام". انحيازية واضحة في عرض رأي الطرف الآخر بشكل أضعف من رأيه.
الاعتراض الثالث والأخير هو ارتكابه لمغالطة التلبيس (equivocation fallacy) في تغييره كلمة "تحرش" إلى "كلام". هنا، يحاول الأحمق، أو الحمقى الذين صمموا الصورة، تمرير التحرش كأنه "مجرد كلام"، حرية تعبير. وقد بينا في مثال التاجر أن حرية التعبير لا تكون فيما يؤثر بشكل مباشر على الغير. لذا، فإن "كلامه" هنا لا يساوي "كلامه" في الصحافة أو الكتب في مطالبته بوضع قانون يمنع "التعري". يحاول هو جعلها متساوية ليحصل تحرشه، الذي يعتدي على حريات الآخرين، على نفس حصانة حرية التعبير التي لا تعتدي على حرية أحد.
الشابة: "لكنك أنت كذا بتأذيني بكلامك".
الشاب: "وإنتي كمان بتأذيني بملابسك".
محاولة فاشلة أخرى. لنتوقف لديها قليلًا ونتخيل موقف "شاب يتحرش بفتاة" وموقف "شابة ترتدي ما لا يعجب أحدهم في الشارع". لنقل أن رؤيته للفتاة تؤذيه فعلًا. في الموقف الأول يذهب الشاب للفتاة، ويتبعها، ويتحرش بها. تعمد للإيذاء الشخصي واعتداء على حريتها في أن تبقى سليمة جسديًا ونفسيًا. في حين أن الموقف الثاني هو مرور للفتاة في الشارع من دون الوقوف أمام الشاب بشكل استفزازي وإجباه على رؤية ما لا يريد أن يراه، الأمر الذي يقابله هو مطالبة الشاب في الصحف والكتب بقانون يمنع "التعري"، أمر ليست موجهة لشخص بعينه ولا يتسبب بأذى مباشر. إن أرادت الشابة ألا تقرأ هذا الكلام فمن حقها عدم قراءته، لكن ليس من حقها منعه. كما أنه من حقه عدم النظر إليها، لأنها لم تتبعه وتجبره على النظر إليها كما لم يتبعها بكتابه ويجبرها على قراءته.
له الحق في المساواة بين الاثنتين، في حال قبلنا أنها "تؤذيه" فعلًا، لو كانت الفتاة تذهب أمامه وتتبعه وتجبره على رؤية ما لا يريد أن يرى. وذلك يعد تحرش أيضًا لو قامت به. ولكن مرورها بالشارع مرتدية ما تريد؟ له الحق بألا ينظر، هي لم تجبره على أن ينظر. هو ليس في بالها أصلًا. بينما هو، في الموقف الأول، يتقصد التحرش بها وإيذاءها.
الشابة: "أنا مش مقتنعة بالحجاب، ودي حاجة بيني وبين ربنا".
الشاب: "أنا بقى مقتنع بغض النظر، ومع ذلك دي حاجة بيني وبين ربنا".
الشابة: "لكن أنت ربنا أمرك تغض بصرك".
الشاب: "وأنتي كمان ربنا أمرك تغطي جسمك".
بعيدًا عن الهراء الديني هنا، اختار مصمم، أو مصممي، هذه الصورة ردود سيئة جدًا. وسأضع نفسي في موقف الفتاة في نهاية المقال وسأرد بالنيابة عنها. ولكن يوجد شيء آخر هنا، هي لا يؤذيها ارتداءها للباس قصير، على سبيل المثال. والأمر، كما تقول، بينها وبين ربها. بينما هو، كما يزعم، وقد قبلنا زعمه، يؤذيه النظر إليها. بعيدًا عن زعمه أنه بينه وبين ربه، لماذا ينظر إن كان يؤذيه؟ ملعنة؟ ويوجد خطأ ثاني أيضًا، هو يسلم بأن ربه أمره بغض البصر، بينما هي، كما قالت، "مش مقتنعة بالحجاب." لماذا يعود يحاجها بشيء هي لا تقبل صحته حينما يقول: "ربنا أمرك تغطي جسمك"؟
الآن، وبعد توضيح العديد من الأخطاء والمغالطات المنطقية والتلبيسات المرتكبة هنا، سأضع ردود بالنيابة عن الفتاة:
الشابة: "أنا حرة، ألبس إلي أنا عوزاه."
الشاب: "وأنا كمان حر، أقول إلي أنا عاوزه."
الشابة: "أنا هطالب بقانون يمنع التحرش بموجب حقي بالحصول على رفاهي وابعاد أي اعتداء على حريتي."
الشاب: "وأنا كمان، هطالب بقانون يمنع العري."
الشابة: "أنت لو مش عاوز تشوف إلي بتسميه "عري" غمض عينك!! بلبسي ما تعديت على حريتك، بينما بتحرشك بتتعدى على حريتي."
الشاب: "أنت كمان لو مش عاوزه تسمعي كلامي سدي ودانك!"
الشابة: "اسمه تحرش، مش أي "كلام"، ما تخترش مصطلحات تخفف من بشاعة تصرفك. أنت، بتحرشك، بتتبع شخص معين وتتعدى على حريته."
الشاب: "وإنتي كمان بتأذيني بملابسك."
الشابة: "وكيف إن شاء الله ملابسي بتأذيك؟ ما يكون أجبرتك تبص لي ولحقت وراك؟ ده حيبقى تحرش وحيمنع مع القانون إلي بطالب فيه. زيد على كده إن أنا مش مقتنعة بالحجاب، ودي حاجة بيني وبين ربنا".
الشاب: "أنا بقى مقتنع بغض النظر، ومع ذلك دي حاجة بيني وبين ربنا"
الشابة: "يا زبالة قلت لك أنا مش مقتنعة فيه، مش مقتنعة إن ربنا قال كدا. أنت زي الهندوسي إلي زعلان أنك بتاكل لحم بقر لأن هو مقتنع أنه حاجة مش للأكل، حسب دينه. يصير يفرض اعتقاده عليك وتبطل تاكل برغر؟"
سولمون نورثوب، مواطن أمريكي حر من ساراتوغا، نيويورك. متزوج وأب لثلاثة أطفال، أكبرهم إليزابيث التي لم تتجاوز في سنة 1841 العاشرة؛ تم استدراجه بعيدًا عن منزله وأهله وحريته في تلك السنة، واختطاف من قبل رجلين، "وحوش لا إنسانية بهيئة بشر،" كما وصفهم نورثوب في مذكراته، فقط من أجل الذهب؛ وتم استعباده لمدة 12 سنة، وكل ذلك لأن لون بشرته مختلف.
تنتشر في هذه الأثناء قضية الرشيدي والحربية، قضية لا تختلف كثيرًا عن قضية نورثوب. يحاول جماعة من الرعاع فصل المرأة عن زوجها بسبب أن نسبه "أقل" منهم. المؤسف أن أغلب محاولات الدفاع عنهم جاءت من باب "هو من بني عبس،" ليقولوا بذلك أن "نسبه مكافئ ولا شيء فيه". حتى وإن كان نسبه "أقل" من نسبهم، بغض النظر عما تعنيه تلك العبارة الحمقاء الفارغة التي تفترض وجود نسب أعلى أو أقل من آخر، ما المشكلة في ذلك؟
تلك مأساة، حينما ندافع عن قضية عادلة بحجة سيئة، ولا تختلف مشاعري هنا عن مشاعر دانيل دانيت حينما قال: "لا يوجد شيء أقل حبًا في قلبي من حجة سيئة لصالح فكرة عزيز علي،" فقررت أن أعرض هنا حجة اعتقد أنها أفضل بمراحل وأشواط.
إن مخرجنا الوحيد من تلك المآسي التي اعتبرت جماعة أقل قيمة من جماعة أخرى هو المساواة. نتحدث كثيرًا عنها، نرى أن اعتقاد كل فرد منا بالمساواة بين البشر أمر مفروغ منه، حقيقة بدهية يجب على الجميع الإقرار بها. نقول بأن الرجل والمرأة، الأبيض والأسود، الغني والفقير، المسلم واليهودي، متساوون. يساعدنا مبدأ المساواة بين البشر على التخلص من أمور عانى منها أسلافنا كالرق واعتبار المرأة كائن أدنى من الذكر وأقل قيمة منه، على سبيل المثال لا الحصر.
إلى أي مدى يمكننا أثبات صحة مبدأ المساواة؟ إن أغلب من يقولون بالمساواة لا يستطيعون دعم افتراضهم ذاك، بل وأن بعضهم لا يعملون حسب كثير من التبعات الناتجة عنه. سأحاول هنا تقديم بعض الاعتراضات على مبدأ المساواة، وسأحاول وضع الأسس التي يمكننا اسناده عليها، لأقوم لاحقًا بذكر بعض التبعات الناتجة عن مبدأ المساواة، المبدأ الذي نصرخ كلنا به وندعيه لأنفسنا، وقليل منا من يعمل حسب تبعاته حقيقةً.
من منا لم يسمع ذلك الاعتراض القادم من أفواه المحافظين حينما يصرخون "المساواة لا تعني العدالة". لديهم نقطة في الواقع، نحن، سواء أأعجبنا ذلك أم لا، مختلفون. نختلف بألواننا، بقدراتنا، باحتياجاتنا، بأجناسنا؛ ومن هذه الاختلافات يأتي المحافظ بفكرة أن "المساواة لا تعني العدل دائما".
لذلك جانب كبير من الصحة، بأي حق افترضنا أننا متساوون؟ يعطي المحافظ مثالًا حيًا على ذلك بالمرأة التي لا تمتلك القوة الكافية للقيام بعمل ما، تلك المرأة، حسبما يقول المحافظ، يجب ألا تعامل بمساواة مع الرجل، ولا يجب أن يطلب منها ما يطلب من الرجل.
أذكر أني رأيت في مرة صورة تبسط ذلك الاعتراض، في تلك الصورة ثلاثة أطفال في ملعب، أحدهم طويل، الثاني متوسط، والثالث قصير. كل طفل يريد مشاهدة المباراة، ويوجد حاجز متوسط الطول يحجب رؤية من لا يفوقه طولًا، بالتالي يحجب متوسط الطول والقصير، أما الطويل فيستطيع مشاهدة المباراة من دون أي مشاكل. بسبب ذلك الحاجز لا يستطيع الطفل القصير المشاهدة إلا بعد أن يقف على صندوقين، أما متوسط الطول فكل ما يحتاجه هو صندوق واحد، أما الطويل، كما قلنا فلا يحتاج لأي شيء.
نملك ثلاثة صناديق، ولكي نعاملهم بمساواة، كما يدعي المحافظ، يجب أن نعطي لكل منهم صندوقًا واحدًا. سيتمكن الطويل ومتوسط الطول من المشاهدة، أما القصير فلن يتمكن من ذلك لحاجته لصندوقين وليس لواحد. أما إن أردنا أن نكون "عادلين"، كما يقول المحافظ، فإننا يجب أن نعطي كل طفل احتياجه من الصناديق.
المشكلة في "العدالة" الذي يتبعه المحافظ أنها لا تملك قوانين يحتكم إليها، لا وجود لقانون يتفق عليه الجميع، فالقانون الإسلامي سيبحث في مصلحة المسلمين أكثر من غيرهم، والرجال أكثر من النساء، وهكذا (كل ذلك ظاهر ولا أحتاج للمحاجة له). وبذلك نقول أن المحافظ بـ "عدالته" سيعاملهم حسبما يرى هو. قد يضع بعض المبررات لأحكامه ليدعمها "عقليًا"، فنراه يجعل المرأة أقل لأنها "أضعف جسديًا" أو يستعبد غيره من البشر لأنهم "لم يرضوا بالعبودية لله، فأذلهم الله بالعبودية لعبيده" ويجملها بأنه يعملهم "معاملة حسنة"، أو يمنع المثلي من حقه بالزواج لأنه "مخالف للفطرة".
أحد المبررات التي قد نعطيها لدعم المساواة هي فكرة أن "جميعنا بشر". لكن هذه الفكرة لا يمكن أخذها بعيدًا، ما الذي يميز البشر عن غيرهم من الكائنات لنساوي بينهم ولا نساوي بينهم وبين الكائنات الأخرى، لماذا "كلنا بشر" وليست "كلنا كائنات حية"؟
أحد الردود التي يمكن طرحها هي أننا أذكى من باقي الكائنات ونستطيع التمييز، وأننا نمتلك عقل متفوق يجعلنا أهم وأعلى قيمة من غيرنا ويميزنا بشكل واضح عنهم. ولكن هذا الرد يسقط حينما نعي أن بعض البشر لديهم اعاقات عقلية تجعل كثيرًا من الحيوانات، كالكلاب والقردة العليا، بقدرات عقلية أكبر منهم. هل يجعلنا ذلك لا نعتبر من يعانون من اعاقات عقلية ممن تشملهم المساواة؟
بل أكثر من ذلك، الطفل، حينما يولد، لا يملك أي قدر من القدرات العقلية المميزة، يتفوق عليه في ذلك حيوانات كثيرة: التشامبنزي البالغ، الكلب البالغ، والخنزير البالغ، على سبيل المثال لا الحصر. هل هذا يجعلنا نقصي الأطفال من مبدأ المساواة؟
كما نرى، قدراتنا العقلية ليست أمرًا مميزًا، واخذها كشرط للنظر للآخرين بشكل أخلاقي يجعلنا نقصي الأطفال وذوي الاعاقات العقلية.
قد يتوفر رد آخر، ولكن هذا الرد اعتباطي، أذكره لأنه سيخطر على بال كثيرين وليس لأهمية تذكر فيه. يقول هذا الرد أننا بشر ملزمون بالبشر لأنهم مثلنا، أما غيرهم فنراعيهم ولكن ليس بالقدر الذي نراعي به البشر، لأن هذا النوع الذي ننتمي له. ولكن هذا الرد يعود للاعتراضات أعلاه، لماذا البشر وليس باقي الكائنات الحية؟ ما الذي يمنع تضييق الجماعة من جماعة نوع إلى جماعة عرق أو قبيلة أو دين ويصبح التبرير “لأن هذه القبيلة التي أنتمي إليها”؟ وضع الحد في البشر لا يملك أي أفضلية على توسيع الدائرة إلى "جميع الكائنات الحية" ولا على تضييقها إلى "قبيلة حرب".
يصبح الأمر على عاتقنا الآن في اثبات صحة المساواة بين البشر، ويجب أن نعلم أننا نواجه تحدٍ صعب أمام المحافظ الذي يقف على اختلافات كثيرة بين البشر، منها ما هو رئيسي ومؤثر، ومنها ما هو ثانوي ولا يحدث فارق.
لقد حاول الفلاسفة في مختلف المجالات من قانون، اجتماع، أو أخلاق، إيجاد حلول لهذه المشكلة، ونستطيع الآن أن نقول أنه في ظل هذه الاختلافات الكثيرة بيننا، لا يوجد أي مستوى يمكننا أن نتساوى به إلا مستوى واحد، المعاناة. الهرب من المعاناة، وعكسه، السعي للسعادة، هي الأمور التي نشترك بها جميعًا. مهما اختلفنا، فإننا نشترك بهذه القيمة.
إن سعينا للسعادة وهربنا من المعاناة أمر لا يمكن الاختلاف به، وهو حقيقي بمجرد معرفة معنى كلمتي "معاناة" و "سعادة". في معنييهما تكمن تلك الحقيقة، فالمعاناة، بطبيعتها، أمر غير مرغوب به لا يبحث عنه أحد. قد نختلف فيما يسبب لنا المعاناة، ولكننا نشترك في أننا نعي ما يسبب لنا المعاناة ونحاول تجنبه، ونعي جميعًا ماذا تعنيه المعاناة بغض النظر عما يسببها.
إن سعينا للسعادة وهروبنا من المعاناة يمكن وضعهما في كلمة واحدة، الرغبات. فنحن، كما شرحت سابقًا، نرغب في البعد عن المعاناة والحصول على السعادة. هذه هي رغبتنا الأساسية، ولا أستطيع تخيل أسباب ابسط منها. السعادة والمعاناة أبسط الرغبات وفوقها توضع جميع الرغبات الأخرى. المتدين يرغب بمسجد نظيف يصلي فيه ليحقق سعادته الروحانية، حاليًا، وسعادته الأبدية، المفترضة، بعد موته. الشاب يرغب بالزواج من فتاة لأنه يحبها، ولكن أسفل ذلك الحب أمور تنتهي سلستها بشيء واحد دائمًا .. السعادة. والعكس صحيح مع المعاناة، فنحن لا نرغب في البقاء في حبس، لا نريد أن نعزل عن حريتنا، لا نريد أيًا من ذلك. قد نضع أسبابًا مختلفة، ولكن مهما كانت اسبابنا فإنها ستنتهي بشيء واحد، ألا وهو عدم الرغبة بالمعاناة.
قد توجه بعض الاعتراضات هنا، بعض الناس يريدون المعاناة، المازوخي يريد أن يتألم، فهل نمنع عنه هذا الحق؟ لا، فالألم هنا لا يسبب له معاناة، تعرضه للألم يسبب له السعادة، هو أمر يرغب به، ومن يعرف مازوخيًا فسيكون على علم بأنه وإن بكى وتألم فإن ذلك البكاء والألم يعطيه سعادة ونشوة يرغب بها. أقرب مثال على ذلك شرب الكحول، كثير من الناس لا يعجبها طعم الويسكي على سبيل المثال، ولكنهم يشربونه لأنه يعطيهم سعادة تطغى على الطعم الغير مرغوب به.
اعتراض آخر أكثر ثقافة اسميه باعتراض الشاعرة. الشاعرة تريد أن تعاني لتأتي بشعر أفضل. لكن، كما في الأمثلة السابقة، غالبًا أن الشاعرة تحصل على سعادة من شعرها الجيد القادم من معاناة أقل من السعادة التي حصلت عليها.
قد يكون المثال الأخير أكثر صعوبة من سابقيه، ولكن إن أخذنا التعريف الأوسع للمعاناة بـ"ما يتجنبه الفرد" فإن الشاعرة تصبح ضمن تعريفنا للمعاناة، ولا أشكال في ذلك.
الآن، لنسمي تلك بالرغبات، رغبة البشر في البعد عن أمور والحصول على أمور أخرى، المعاناة والسعادة، تلك الرغبات يجب أن تأخذ بالحسبان بشكل مساوي، فرغبتي بالزواج يجب أن تأخذ في الحسبان بالتساوي مع الآخرين، ويجب ألا يغير ميولي، جنسي، لوني، من جدية أخذ تلك الرغبة بالحسبان. إن ذلك لا يعني ضرورة تحقيقها، فبعض الرغبات تتعدى على رغبات الآخرين، على سبيل المثال، وسنفصل في ذلك لاحقًا، ولكن بشكل بسيط فإن البشر جميعًا يسعدون ويعانون، وبسبب ذلك يجب أن نأخذ رغباتهم على محمل الجد بالتساوي من دون تمييز أو عنصرية لأنهم جميعًا يشتركون بتلك الخاصية مهما اختلفوا في غيرها.
إن هذا المبدأ هو المبدأ الوحيد الذي نستطيع أن نسند عليه المساواة، حتى الآن على الأقل، ولك عزيزي القارئ محاولة البحث عن مبدأ آخر في ظل الاختلافات الكثيرة بين البشر، وإن وجدت أي شيء فأخبرني به.
بأخذ هذا المبدأ في المساواة نستطيع الرد على الاعتراضات السابقة من المحافظ في مسألة اختلافنا، فحتى وإن اختلف الاخوة القصير والمتوسط والطويل، فإنهم جميعًا يرغبون بمشاهدة المباراة، ويجب أن ننظر لرغباتهم بالتساوي وبالتالي إعطاء القصير صندوق آخر يساعده على مشاهدة المباراة وإعطاء المتوسط صندوق واحد.
إننا بهذا المبدأ نحقق غايتين، التخلص من التمييز بين البشر حسب اختلافاتهم سواء العرقية، الجنسية، الدينية، ... إلخ. فكون أحدهم أسمر البشرة لا يجعلنا نجرده من رغباته، كما لا يجعلنا ذلك نجرد الأنثى من رغباتها. أما الغاية الثانية فهي ضمان إعطاء كل شخص ما يستحقه. هنا، باستعمال مبدأ المساواة في اعتبار الرغبات، نحصل على عدالة حقيقية بين البشر، عدالة قائمة على المساواة بينهم وأخذ جميع رغباتهم بعين الاعتبار بغض النظر عن الاختلافات بينهم.
هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من الرغبات الشخصية في رفع أفراد على آخرين، أخذ مصالح أناس على حساب مصالح آخرين، إعطاء أسباب "عقلية" على ذلك لتظهر بمظهر "العدل". لقد برر البشر تميزهم تجاه بشر آخرين بأمور كثيرة، أسباب وضعوها بشكل "عقلي"، حسبما يقولون، أسباب جعلت الظلم والعدوان يمتد لبشر غيرهم لمجرد اختلافهم عنهم.
إن كان ما قلته صحيحًا، فماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يجعلنا نأخذ أي معاناة وسعادة في الحسبان، مهما كان حاملها مختلفًا عنا. الرجل من قبيلة أخرى يعاني كما نعاني، كذلك تعاني تلك المرأة من الدين الآخر، والطفل من العرق المختلف عن عرقنا، وذلك الشخص ذو الميول المختلفة عن ميولنا. من أيضًا؟ كلنا نعلم من أيضًا، ولكننا نتجاهل. الحيوانات تعاني كما نعاني، كلنا يعلم ذلك. ولذلك نجد لدينا مطالبات بالرفق بالحيوانات وغيرها، وغضب حينما يحرق أحدهم حيوانًا لغرض المتعة.
إن أخذ معاناة الحيوانات بعين الاعتبار أمر ضروري ومن تبعات محاولتنا للسعي نحو المساواة، فإن أردنا مساواة بين البشر فإن الطريق الوحيد لها هو اخذ رغبات كل من يعاني بعين الاعتبار مهما كان مختلفًا، وبما أن الحيوانات تعاني، وإن كانت مختلفة، فإننا يجب أن نأخذ معاناتها بعين الاعتبار.
لم أضع حتى الآن أي قانون حول ما يجب أن نفعله بعد أن نأخذ رغبات كل من يعاني بعين الاعتبار. كما قلت سابقًا، بعض الرغبات لا يجب أن تحقق لأسباب سأشرحها بالتفصيل في مقال آخر، كل ما قلته هو أنه يجب أن نأخذ رغبات الجميع بعين الاعتبار بالتساوي من دون أي تمييز بينهم. ماذا يجب أن نفعل تجاه الحيوانات؟ أيضًا هذا السؤال مفتوح ولم أجب عنه، كل ما أقوله أن معاناتهم يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كذلك.
جميعنا نعاني، وجميعنا نبحث عن السعادة. إن وعينا بذلك وبحثنا عن أكبر سعادة وأقل معاناة سيمكننا، بعد عمل شاق وسنين طوال بالتأكيد، توفير حياة أفضل وأكثر أخلاقية لنا وللأجيال القادمة، يستطيعون من خلالها توفير حياة أفضل لمن سيأتون من بعدهم.
ملاحظة: هذا المقال جزء من سلسلة مقالات قائمة على بعضها، إن لم تقرأ الجزء الأول والثاني فيحبذ قراءتهم قبل قراءة هذا المقال.
"إن كنت تعتقد بحرية التعبير، فيجب أن تعتقد بحرية التعبير عن الآراء المخالفة لك." نعوم تشومسكي
مقدمة:
الكل دواعش. الشعب باغلبيته داعشي، ولكن لم يظهروا بعد. قبل أيام، تفجير انتحاري قبيح وجبان استهدف مصلين شيعة، ليتوجه البعض ليرد بـ "حتى هم عندهم متشددين" بدلًا من إدانة العمل الإرهابي. لأستيقظ بعدها بأيام على خبر مشابه في حي العنود. لا يقف الأمر هنا، رجل، على ما يبدو، مصاب بعقدة المسيح، Messiah Complex، التي تتصاحب عادة مع الشيزوفرينيا ومشاكل نفسية أخرى، وشعبنا العظيم يريد قتله وإقامة حد الردة عليه. ماذا أيضًا؟ قبل أيام أنتشر مقطع فيديو لرجل من الهيئة يطرد امرأة من محل ما، ويطالبها بلبس القفاز. دخلت إلى الهاشتاق وإذا بالشعب الداعشي يملأه بـ "تستاهل" أو "كل من ينتقد الهيئة هو من دعاة الفساد". سنحاول هنا تحليل بعض الأحداث لنرى كيف أن المجتمع السعودي هو الخامة التي ينتج منها الدواعش بشكل أساسي.
صور من الوصاية:
نشرت حصة آل الشيخ مقالها في جريدة الرياض تحت عنوان " مُعتقَل الوفاء التراثي النسوي" الذي اعترضت فيه على فترة عدة الأرملة وصفةً أيها بأنها "استعباد فرضه التراث". الأمر الذي استفز فحولة مجتمعنا الداعشي، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها، فكفرها البعض، وطالبوا بحد ردة وما إلى ذلك، ليتغنى بعضهم باحترام الآخر في اليوم التالي بعد أحداث القطيف التي راح ضحيتها عشرات القتلى واصابة قرابة المئة شخص. إن ما حدث في مسجد القديح نتيجة طبيعية لمبدأ الوصاية الذي ينتهك حرية الأفراد، من تعبير أو اعتقاد أو غيرها، في قضايا مثل قضية حصة آل الشيخ. فهم يصيحون ويطالبون بقمع وقتل الرأي الآخر، وإن حدث ذلك قاموا بذرف دموع التماسيح. بل أن بعضهم لا يتجرأ عل أن يدين ما حدث بأنه اعتداء على الآخرين، فيدينه بأنه "خروج على ولي الأمر". جميل، إذًا المشكلة ليست بالقتل إنما بالخروج على ولي الأمر. فلو أن ولي الأمر هو من قرر فلا بأس .. تذكروا، مبدأ الطاعة.
نجد أمرًا مشابهً جدًا في حادثة سبقتها، حادثة تشارلي إيبدو التي ليست إلا قمعًا للمخالف ووصاية على البشر. أدانوها وبكوا "بحرقة" عليها، ليقوموا باليوم التالي بالتصفيق لجلد المدون رائف بدوي ويتمنون أن "ولي الأمر" قام بتنفيذ حد الردة عليه. طاعة ووصاية مرة أخرى. هم يتمنون الأمر، يريدون سفك الدم تطبيقًا للوصاية، يريدون لما حدث أن يحدث، ولكن من دون مخالفة ولي الأمر، إن أمر ولي الأمر بقتل الرسامين فلا بأس. هكذا يفكر المُسَلِّمون الحقيقيون.
ما-وراء داعش:
إن الأعمال الإرهابية، سواء في تفجيري القديح والعنود أو حادثة تشارلي إيبدو، ليست إلا النتيجة الطبيعية والمنطقية لمطالبهم "بإقامة الشرع على المخالفين،" الوصاية، بعد أن يعي بعضهم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن حدود الله يجب أن تطبق. وبذلك يتخلص من طاعة الحاكم ويذهب لطاعة الله مباشرة. فينتج لنا أناس يعيشون في القرن الواحد والعشرون بعقلية القرن السابع الميلادي، عقلية سفك الدماء التي يتغنون بها في مجرمهم التاريخي خالد بن الوليد، يطبقون الوصاية من دون الحاجة لأمر الحاكم.
هل أبالغ بوصفهم بالدواعش؟ فالداعشي قد وصل لمرحلة متقدمة من موت القلب والرحمة والإنسانية، الأمر الذي يجعله يحرق ويقطع ويقتل بأبشع الطرق، "بالتأكيد لم يصل شعبنا، مع تشددهم، لتلك المرحلة" أليس كذلك؟ لا أزال حتى اليوم أصاب بالدوار كلما قيلت كلمة ’رجم،’ فقد ارتبطت هذه الكلمة بالمقطع الذي رجمت فيه داعش امرأة مارست الجنس بغياب زوجها. وأنا أكتب هذه الحروف، تعود بي الذاكرة مباشرة لذلك الحجر الذي ارتطم برأسها فارتد من قوة الضربة، اللقطة التي أقفلت المقطع بعدها مباشرة، لتلازمني هذه الحالة من التنميل في الرأس من الخلف والدوار كلما ذكرت هذه الكلمة. هل يصل شعبنا لهذه المرحلة من الإجرام؟
بالأمس انتشر مقطع لشخص يتضح عليه سوء الحال، وضيق العيش، قام "بسب" الله وتمزيق القرآن. فهم شعبنا الداعشي العظيم المتعطش لسفك الدماء يطالب برؤية دم المسكين مراقًا، عل ذلك أن "يشفي غليلهم،" ويسكن ادمانهم لرؤية دم المخالفين مراقًا، ولم يلتفتوا لأن ذلك الرجل، وبكل وضوح، يعاني من اضطرابات عقلية واضحة نستطيع أن نراها بادعائه بأنه المسيح أو المهدي المنتظر. إن ما يمر به هذا الشخص حالة معروفة وشائعة جدًا تسمى بعقدة المسيح أو متلازمة المسيح، وأحيانًا، بصيغة أكثر عمومًا، عقدة المخلص. تتصاحب هذه الحالة عادة مع الاضطراب الوجداني ثنائي القطب أو الشيزوفرينيا (الفصام)، وتتشابه بأعراضها مع أعراض أوهام العظمة التي من أهمها المبالغة الشديدة في تقدير الذات، المبالغة الشديدة في المعرفة والعلم الذي يملكه الشخص، الارتباط بعلاقة خاصة مع الإله أو شخصية مشهورة. (حالة تشبه حالة الأنبياء كثيرًا، أليس كذلك؟ ماذا لو كانوا الأنبياء في زمننا؟) وبالرغم من وضوح اضطراب هذا الرجل إلا أن البيوض الداعشية لم تكترث، وأرادت إراقة دمه و "التبريد على قلبها" برؤيته.
لا يقف الأمر عند هذا المسكين، قبل فترة ليست ببعيدة وصل هاشتاق #مليون_مثلي_عربي إلى ترند في السعودية، ليمتلئ بوابل من الأمنيات الداعشية بأن يحرق المثلييون، حتى أن أحدهم كتب أنه لو طبق حد الله عليهم بحرقهم لما بقي المثليون موجودين. هم نفسهم الذين استنكروا حرق داعش للطيار الأردني، ومن منا ينسى تلك "الحقوقية" المدعوة ريما كردي، التي تنتقد ما تفعله داعش وتتباكى بسببه، حينما تمنت اقامة "هولوكوست" للمثليين. معايير مزدوجة.
لتبسيط المعايير المزدوجة ننقل وصف نعوم تشومسكي لها في السياسة الأمريكية بقوله: "ارهابهم ضدنا هو الشر المطلق، بينما ارهبنا ضدهم لا وجود له، وإن وجد فهو مبرر". قد سخرت ريما كردي من المعايير المزدوجة، الكيل بمكيالين، حينما قام به بعض الدواعش بتباكيهم بسبب مجازر بشار مع ترحمهم على مجازر صدام. في حين أنها تقوم هي بنفس الفعل حينما تتباكى بسبب ما يفعله الدواعش في الأكراد ولكن تتمنى حصول نفس الشيء للمثليين. معايير مزدوجة. لا تقف معايير ريما كردي المزدوجة عند "ارهابهم شر وارهابنا عادي،" بل تمتد إلى "معاييرهم المزدوجة شر ومعايري المزدوجة عادي". لتتفوق "الليبرالية" بدعشنتها على الدواعش أنفسهم، فحتى في استخدام الـ double standard لديها double standard.
في الفلسفة، يستخدم مصطلح meta للتعبير عن الـ ’ما-وراء’، حينما نتحدث عن الحديث فهذا ميتا-حديث، حينما نفكر بالتفكير فهذا ميتا-تفكير، حينما نضع نظريات أخلاقية فتلك فلسفة أخلاقية، Ethics ولكن حينما نتحدث عما تعنيه الأخلاق أصلًا فنحن نتحدث ميتا-أخلاق meta-ethics .. ريما كردي قدمت لنا مشكورة مبحثًا جديد في المعايير المزدوجة .. meta-double standard ميتا-معايير مزدوجة.
سنفصل في ريما كردي ومن هم على شاكلتها من "الليبراليين" و "الحقوقيين" السعوديين لاحقًا، ولكن الآن لنعد إلى شعبنا الداعشي وحرق المثليين، لم يقف الأمر معهم هنا، بل أن أحدهم غرد بصراحة بأن "هالمخانيث ما ينفع معهم إلا داعش تحرقهم حرق". بذور داعش وبيوضها في كل مكان، سواء من الحمقى أو من الأشد حماقة، مدعي الحقوق والحرية والليبرالية المزيفين. المجتمع السعودي، بمختلف أطيافه، إلا من رحم العقل، قائم على مبدئي الوصاية والطاعة اللذان هما، كما رأينا في تحليلنا السابق، المقدمات المنطقية للدعشنة. تربوا وتغذوا عليها منذ نعومة أضفارهم. وليسوا بحاجة الكثير ليبدؤوا بتطبيق أمانيهم من نحرٍ ورجمٍ وحرقٍ لمن يخالفهم ولا يعجبهم، أو لا يعجب إلههم، تصرفه.
تبرير الوصاية:
أن مبدئي الوصاية والطاعة بحاجة إلى تبريرات، لكي ترد من تراوده نفسه بتركها أو الاعتراض عليها في المجتمع. في المقال السابق ذكرنا تبرير مبدأ الطاعة، لكن ماذا عن الوصاية؟ في أحد أفضل الأفلام لدي فلم V for Vendetta تقوم الحكومة بإيهام الشعب بأنها تحميهم من انهيار الأخلاق عن طريق القانون المحافظ (سأتحدث عن القانون المحافظ في مواجهة الليبرالية لاحقًا). فخارج الدولة، الفساد والقتل والأمراض، والأطفال اللقطاء، لتبرر الحكومة تطبيق الوصاية على شعبها بـ "حفاظًا عليهم من الانهيار الاجتماعي والأخلاقي ووقايتهم من العقوبة الإلهية التي ستنالهم." بينما في الواقع فإن العكس هو الصحيح.
من منا لم يسمع بذلك؟ "الغرب في انحطاط أخلاقي، وتفكك اجتماعي، يزداد يومًا بعد يوم، بسبب بعدهم عن الدين، وبسبب عدم وجود من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر". الأمر تاريخي في القرآن، فكما في سورة المائدة: {لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني إِسْرائيلَ عَلى لسان دَاودَ وعيسى بن مَرْيَمَ ذلكَ بِما عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدونَ ، كَانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنْكَر فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلونَ}. إن هذا ميم واضح في الإسلام، ميم لتبرير مبدأ الوصاية والتخويف من تركها. فالغرب، كما يدعون، قريبًا سينهار، ليجدوا أنفسهم، أي الغرب، في مأزق؛ وعليهم، أي المسلمين، أن يتمسكوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكيلا يسقطوا في الهاوية مع الغرب الذي ينهار تدريجيًا، ليأتوا بعدها بحكم الشريعة وينتشلوا الغرب والعالم كله من الحظيظ كالمنقذ والمخلص الوحيد. نسمع ادعاءات غريبة ما إن نخرج لبلاد الغرب حتى نكتشف كذبها وزيفها، ادعاءات بالتفكك الاسري والاجتماعي، والانحلال الأخلاقي، وكثرة الأمراض والكوارث، والأوبئة والحوادث، حتى أصبحت صورة الغرب في ذهن المُسَلِّمون الحقيقيون فوضى، لا نظام لديهم، تغتصب الفتيات في الشارع من دون أن يتدخل أحد، والأطفال اللقطاء يملؤون براميل القمامة، والأفضل حالًا يسمع بكاءهم أمام باب كل مشفى وكنيسة. يضع سلمان العودة هذا الفقه بمنطق واضح، في كتابه وسائل دفع الغربة، بقوله أن التفريط في "شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" سبب في تسليط الله لعقوبته، مستدلًا بالآيتين السابقتين. ليقول بأن ترك مبدأ الوصاية سبب في انتشار الفساد والخبث، والذي بدورة يؤدي إلى العقوبات الإلهية المختلفة من كوارث وأمراض، وخلاف وتناحر، و "تسليط الأعداء" و "عدم إجابة الدعاء،" والأزمات الاقتصادية، وغيرها من المخاطر التي يخوف بها العودة، مؤكدًا على أنه " إن لم يكن في الأمة من ينهى عن السوء والفساد؛ فلا نجاة لأحد منها".
هذا ما تسمعه، أما ما تراه فأمر آخر؛ فحينما تسافر وتذهب للشاطئ تجد النظام، تجد الفتاة الجميلة الفاتنة "كاسية عارية" بحق، بقطعتين من الحرير تخجلان من تغطية جسدها الجميل، وبالرغم من ذلك، يمر الرجل من جانبها وكأنها ليست موجودة. فلا يعتدي عليها، ولا يتحرش بها، عكس ما يحدث لمن تكشف يدها في أرض الله الفاضلة.
قبل أيام، في تويتر، أنتشر مقطع لرجل من الهيئة يطرد فتاة ويتلفظ عليها بأبشع الألفاظ واسوئها، وأكثرها عنصرية ضد المرأة، لتأتي البيوض الداعشية مبررة، ويضع أحدهم صورتين لطفلان ملقيان في الشارع ويعلق "لولا الهيئة لرأيتم هذا المنظر بشكل يومي". ما نراه هنا هو تطبيق واضح ويسهل كشفه من فقه التبرير والتخويف لمبدأ الوصاية. في حالات أخرى لهذا الفقه نجد عبارات مثل "الهيئة تحفظ أعراضكم" وفي رواية “مؤخراتكم،” وما إلى ذلك، وكان أكثر ما كتب في هذا الموضوع هو اقتباس لأحدهم حينما قال أننا سنعرف قيمة الهيئة حينما يكون لدينا أبناء وبنات، ويذكر أن زواج أبنة هذا الشخص كان "مختلطًا".
كما قلنا، هذه أمثلة واضحة وسهلة الكشف على فقه التبرير والتخويف، في المقابل، يوجد أمثلة أكثر صعوبة في الإيجاد، تمارس باحترافية لتطبع صور ذهنية لدى المتلقي من دون أن يشعر. كمثال على أحدها برنامج خواطر في موسمه الأخير، قام الشقيري بمحاولة "ترقيع" لما قام به سابقًا، فصور الغرب على أنه فوضوي، وأن المسلمين "عايشين بنعمة" بسبب الإسلام. ويا ليته صدق بنقل السلبيات، أكثر ما قاله كذب وتزوير، فكان لسان حال الشقيري يقول: "كلوا تبن وقولوا الحمد لله".
ختام:
هؤلاء هم المُسَلِّمون الحقيقيون الذين تحدثت عنهم سابقًا، بيوض الدواعش التي لم تفقس بعد. وليست بحاجة الكثير لتفقس، استمرار التحريض والضرب تحت الحزام من قبل شيوخ داعش وفقهائها المنتشرين في السعودية، الذي ليس أكثر من رعاية للبيوض الداعشية حتى تفقس وتنظم الواحدة تلو الأخرى للدولة الحلم. دولة الخلافة. يجب أن نواجه الحقيقة، الشعب، بغالبيته، داعشي، وكل ما يحتاج إليه هو دفعة بسيطة لنجد أعمال النحر والحرق، الرجم والرمي من شاهق. قد لا يكون هذا المقال دراسة لداعش، ولكنه بالتأكيد دراسة لـ ميتا-داعش. يقول المثل الخليجي: خبز خبزتيه يا الرفلة اكليه. هذا خبز أيدينا، وحان وقت الأكل. ولتكن الأقدار في عوننا.
بيوض داعش - الجزء الثاني: الإسلام وميمات ضد حرية التعبير
ملاحظة: هذا المقال جزء من سلسلة مقالات قائمة على بعضها، إن لم تقرأ الجزء الأول فيحبذ قراءته قبل قراءة هذا المقال.
“حتى وإن كنت ترى أن كتابك المقدس هو كلمة الفصل الأخيرة والأكثر صحة في العالم، فإنك يجب أن تعي أن هنالك أناس في العالم لا يشاركونك نفس التفسير لنفس الكتاب المقدس.” - دانيل دانيت
مقدمة:
في العمل الشهير، On Liberty، تناول الفيلسوف البريطاني جون ستيورت ميل (1806-1873) مبدأين أطلق عليهما أسم قواعد السلوك، والتي، حسب وصفه لها، "يطبقها البشر على بعضهم." يشرح هذان المبدآن، بشكل رائع جداً، فكرتين اسلاميتين تستخدمان في جميع الأوقات داخل السعودية من قبل المجتمع على ذاته. لقد كان حديث ميل عن سلطة الجماعة، والتي رآها مهمة. فالديمقراطية، التي يفترض أن تخلصنا من سلطة الحاكم لا تستطيع العمل جيداً بوجود سلطة الجماعة. فإن الجماعة بالأخير، إن كانت لا تحترم الآخر، ستنتخب سلطة تمارس القمع والاضطهاد ضد الآخر. وهذا ما حدث أمام أعيننا في البلدان التي حصلت فيها ثورات الربيع العربي، التي قامت بها الشعوب بالإطاحة بطغاتها، لينتهي بهم الأمر ليضعوهم على العروش التي أزاحوهم منها من جديد. فهم ركزوا على حماية أنفسهم من سلطة الحاكم ونسوا سلطة الجماعة والتي تكون، بأحيان كثيرة، حسب رأي ميل، أكثر خطراً من كثير من طغيان الحاكم. كما يضعها ميل "الحماية ضد طغيان الحاكم ليست كافية؛ فهنالك حاجة للحماية ضد طغيان رأي ومشاعر الأغلبية."
الوصاية:
إن أول مبدأ تطرق له ميل هو ما شرحه بـ "الشعور في عقل كل شخص [منهم] بأن الجميع مطالبين بأن يتصرفون كما يريد هو، ومن يتعاطف معهم، منهم أن يتصرفون." هذا المبدأ يرينا لماذا يهاجمون كل من لا يتفق معهم. فهو مبني بعمق في أذهانهم بواسطة التعليم الإسلامي في المدارس التي يتعلمون بها، والمجتمع الذي يطبقها كعادة والدولة تضع جهاز حكومي مخصص له. فالقرآن بوضوح يضعها بـ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. سأطلق على هذا المبدأ اسم مبدأ الوصاية.
يجب أن نعلم، أن كلمة منكر هنا تشمل كل ما ينكره الشرع، ينهى عنه، يذمه، ويذم أهله. وبذلك، أي فعل يخالف الشريعة الإسلامية فهو فعل منكر من عبادة غير الله أو الإشراك به، الاستهزاء بالله، محمد، والإسلام، شرب المسكرات، الجنس من غير زواج، أو المثلية. فهنا نرى أن هذه كلها منكرات ينهى عنها تبعاً لمبدأ الوصاية. وبذلك نرى أن مبدأ الوصاية يتعدى على حرية الاعتقاد، حرية التعبير، وحرية الشخص الفردية، وكثير من حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية خاصة بالصحابة، وذهب البعض الآخر إلى أنها عامة لكل المسلمين وتخاطبهم جميعاً، فهم يقدمون "الخير" للناس بأمرهم لهم بالمعروف (ما يأمر به الإسلام) ونهيهم عن المنكر (ما يذمه الإسلام)، بغض النظر عن رأي الطرف الآخر أو حريته الشخصية. واليوم، تستخدم الآية بشكل أساسي لتبرير الوصاية والتدخل بشؤون الآخرين حينما يعترض أحد عليها.
كما نرى، فإن هذه الآية، أولاً، وبالرغم من أنها قد تتحدث عن الأخلاق في بعض الأحيان، إلا أنها بقول "منكر" لا تعني حقوق الآخرين، ولكنها تذهب لـ "ما لا يريده الإسلام،" والذي يمكن أن يكون أي شيء كرسم رسوم كاركتيرية للحية محمد القذرة والمليئة المتفجرات، أو فقط كتابة "لحية محمد القذرة والمليئة بالمتفجرات." ثانياً، أنها ليست موجهة للصحابة، واليوم تستخدم لتبرير مبدأ الوصاية، الذي يقودهم له ما أسماه ميل بـ "افتراض العصمة،" والذي شرحه بـ "أخذ عاتق تقرير [إجابة السؤال] للآخرين من دون السماح لهم بسماع إجابة الطرف المقابل."
مع أن عدداً لا بأس به اليوم يذهب إلى عدم الأخذ بكثير من الأحاديث، إلى أن الغالبية العظمى تلتزم بها وتفسر القرآن بها. فكما يقولون "القرآن يأمرك بالصلاة، والحديث يعلمك كيف تصلي." ماذا عن النهي عن المنكر؟ كيف يكون؟ في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم يعطي محمد طريقة واضحة للنهي عن المنكر قائلاً، "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان." كما نرى، فإن لدينا ثلاث مستويات هنا أولها باليد والقوة، والثاني باللسان، والثالث بالقلب، ولا ينتقل من أحدهم إلى الآخر إلا في حال عدم الاستطاعة.
يضع الحديث بوضوح تعاليم عدم احترام حرية التعبير أو الفردية بشكل لا يخفى على أحد. وبالرغم من وجود عدد قليل لا يأخذ بهذا، إلا أن غالبية المسلمين يعتقدون أن تغيير ما يختلف مع دينهم بالقوة فرض يجب على أحد أن يقوم به. النقطة من شرح هذا هي أنك حينما تسمع عن مسلم استخدم القوة لإيقاف رسامين من الرسم، أو كاتبة من الكتابة، عن طريق قتلهم أو إيقافهم، فتذكر بأن لديهم "الشعور في عقل كل شخص [منهم] بأن الجميع مطالبين بأن يتصرفوا كما يريد هو، ومن يتعاطف معهم، منهم أن يتصرفون." فهو أمر يعيشونه خلال حياتهم اليومية من خلال الهيئة (الشرطة الدينية)، ويدرسونه في مناهج مدارسهم الرسمية؛ وأنها مهمة يجب على أحدهم أن يقوم بها وإلا فالجميع مذنب. ولن نحتاج إلى العودة للوراء كثيرًا لنذكر مثالًا على مبدأ الوصاية، طرد امرأة من محل بسبب عدم ارتدائها لقفازين! بالإضافة إلى وابل من الشتائم والإهانات لتلك المسكينة.
وأولي الأمر منكم:
المبدأ الثاني المستخدم في الإسلام هو ما قال عنه ميل "خنوع البشر لما يحب أو يكره حكامهم المؤقتون، أو آلهتهم" الذي سأسميه مبدأ الطاعة. ويذهب جورج سميث لأبعد من ذلك ليقول بأن الدين كله ليس أكثر من طاعة بوصفه للطاعة بأنها "الموضوع الموحد للدين" بقوله:
إن كان هنالك موضوع موحد [للقرآن]، فهو أن الله يجب أن يطاع، نقطة. إذا أمر الله بالعبادة، فيجب على الشخص أن يعبد. إذا أمر الله بالمحبة، فيجب على الشخص أن يحب. إذا أمر الله برقص الكلاكيت، فيجب على الشخص أن يرقص الكلاكيت. إذا أمر الله بالقتل، فيجب على الشخص أن يقتل. [مضاف بتصرف].
إن مبدأ الطاعة موجود بصورة جلية في التعاليم الإسلامية في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} التي تقرأ على أنها طاعة للحاكم فيما لا يخالف طاعة الله ورسوله. هذا التفسير يتفق عليه، وبشكل غريب، فئتين من المسلمين: المسلمين الأصوليين، وفئة ثانية أحب تسميتهم بالمسلمين اللطيفين – وهم فئة تتبنى إسلاماً، ليس لطيفاً، ولكن أكثر لطفاً من إسلام المسلمين الأصوليين.
وبالرغم من ذلك، ومع أن الحكومة السعودية وشيوخها لا يقولون ذلك حرفياً، إلا أنهم يعطون الناس إيحاء بأن عليهم طاعة ولي الأمر (الحاكم) مهما كان. حتى وإن لم يفعلوا، يبقى السؤال، من الذي يحدد حكم الله؟ سنرى بعد قليل أن من يفعل ذلك هو الحاكم وشيوخه ووعاظه، وذلك حينما أتطرق لمنظورات مختلفة تجاه هذه الآية، التي سأحاول اظهارها مع سبب اعتقاد كل فئة بها.
تفسيرات مختلفة:
المنظور الأول هو للحكومة السعودية وشيوخها، فهم يجعلون فئة من الناس (فئة ثالثة من المسلمين، المُسَلِّمون الحقيقيون – مسلمون هنا بفتح السين، وهي جمع أسم الفاعل مُسَلِم – والذين سأفصل الحديث عنهم لاحقاً في هذا المقال) يعتقدون أن السلطة يجب أن تطاع في جميع الأحوال. ويتعذرون بأن هذا لإبقاء وحدة المسلمين وعدم شق عصاهم، والذي، طبقاً لهم، ما يريده الإسلام عن طريق ذكرهم لأحاديث مثل "من أتاكم، وأمركم جميعٌ، على رجلٍ واحدٍ، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه." (صحيح مسلم). بالإضافة إلى استخدامهم لأحاديث تدعم وجهة نظرهم مثل، "تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك. فاسمع وأطع." (صحيح مسلم). إن هذا الحديث أصبح كالشعار أو التعويذة، عبارة دارجة وأكليشه تردد على كل لسان في السعودية. بالرغم من هذا التبرير، اعتقد أن السبب الرئيسي وراء هذا التفسير ليس "عدم تفرقة الأمة،" ولكن لإعطاء الحكومة عذراً حينما لا تطبق ما يأمر به الإسلام، حينما يكون الحديث عن علاقاتهم الخارجية مع الدول الأخرى؛ وليعطيهم الحق والقدرة بتطبيق الإسلام بمعاقبة (سواء حبس أو جلد) أولئك الذين "يزدرون الإسلام" حينما يحدث ذلك في السعودية من مواطنين سعوديين، أو في أي وقت آخر يكون فيه تطبيق التعاليم الإسلامية التي يدرسونها للطلبة في مدارسهم يصب في مصلحتهم. هنا نستطيع أن نرى أن الحكومة لا تطبق إرادة الله، بالرغم من ذلك، عليك أن "تسمع وتطيع." بالاختصار، ما نراه ليس أكثر من إعطاء الصلاحيات الكافية للحكومة لتكون مرنة في تطبيق التعاليم الإسلامية التي تتبناها حسب مصالحها. وفي سياق آخر يمكن أن يحصر تفسير الدين بشيوخ الحاكم، فيكونون الوحيد القادرين على الفتوى وتحديد "ما يريده الله" ويدعمون ذلك بآية {فاسألوا أهل الذكر}، وبذلك تكون إرادة الله هي إرادة الحاكم التي ينقلها للشعب وعاظ الحاكم وشيوخه ومفتيه.
المنظور الثاني هو منظور المسلمين الأصوليين. المسلمين الأصوليين هم أولئك الذين يتبعون الإسلام حرفياً، يسميهم البعض "مسلمين متطرفين،" وهم ليسوا كذلك. هم يطبقون الإسلام كما هو مهما كانت النتائج. (داعش مثال جيد). هؤلاء المسلمين يأخذون الآية كما هي في سياقها النصي والتاريخي، ويتبنون الحديث القائل: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق،" في حال كان الموجود في السلطة مرتكب لخيانة عظمى للإسلام. (وردت أحاديث أخرى بصيغ أخرى في الصحيحين بنفس المعنى). لذا، إن طلبت منهم السلطة عدم قتال "الكفار" فإن المسلمين الأصوليين يعصون السلطات لأن الله له السلطة الأعلى. (يعتمد الأمر على قوتهم، كثيراً ما يتبعون النفاق والتقية).
المنظور الثالث، والأخير، هو منظور المسلمين اللطيفين. المسلم اللطيف يقول بالضبط ما يقوله المسلم الأصولي في هذه الآية، ولكن ليس ليقاتل، بل ليفسر الإسلام حسبما يراه صحيحاً بطريقة تجعله لطيفاً متجاهلاً ما يقوله المفتين والشيوخ، ليقوم بإلقاء اللوم عليهم وعلى السلطة، سواءً الحالية أو على امتداد التاريخ الإسلامي، بأنهم السبب في الفهم "المتطرف" للإسلام، الذي هو، حسبما يرون، "لطيف" بالأصل. فلسان حال المسلم اللطيف يقول "ليس الإسلام الذي يقتل الآخرين، بل الحكومات والشيوخ الذين استغلوا هذه الآية بشكل خاطئ ليجعلوا الشعوب تتصرف حسب مصالحهم، وأنهم هم، الحكام والشيوخ، ممثلون الله في أرضه. وبذلك، يستطيعون أخذ أموال الناس من دون أن يعترض الشعب، وتسببوا، بتعاليمهم الخاطئة، بإنتاج المسلمين المتطرفين [ما اسميهم أصوليين] الذين يقتلون باسم الإسلام والإسلام منهم بريء."
أنواع مختلفة:
اعتقد أنهم جميعاً مصيبون، الشيء الوحيد الذي أخطأوا فيه هو اعتقاد أن الآخرين مخطئون. ’كيف ذلك؟ ألا تناقض هذه الاعتقادات بعضها البعض؟‘ يعتمد هذا على الزاوية التي تقف فيها وتنظر منها للأمر. إن كنت تراه من زاوية أحد هؤلاء فبطبيعة الحال سترى الآخرين مخطئين. ولكن تلك ليست نظرتي، فبالأخير، لست مسلماً.
حينما كان المسلمون في مكة في أول ادعاء محمد للبعثة، كانت قبلتهم أثناء الصلاة، وبوجود محمد نفسه، إلى القدس. وبقيت قبلته على هذا الحال حتى هاجر محمد إلى المدينة، وبعد فترة، تغيرت القبلة إلى مكة. من التغيرات التي حدثت أيضاً هو حكم شرب الخمر، حتى أنه يروى في الصحيحين أن أنس بن مالك قال: "كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفضيخ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسم منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوْا}." يقال أن محمد لم يشرب الخمر أبداً، لذا فالتغيير لم ينطبق عليه كما هو الحال مع القبلة، ولكن في مسألة التبني كان محمد متبنٍ زيد، وبعدها حرم التبني، لسبب كلنا نعلمه وليس المجال هنا لنقاشه، ولم يعد زيد أبنًا لمحمد.
سيأتي مختلف المسلمين ليشيروا إلى كمية الجهل التي أمتلكها ويخبروني بمختلف الأسباب التي أدت لهذا التغييرات، مثل "أن يرى الله من سيطيعه،" وفي الحقيقة لا يهمني السبب أياً كان. ما أقوله هو أن هذا تغيير في فترة محمد، فقط. وأن الإسلام تطور وتغير حتى في فترة محمد.
بعد أن مات محمد، أختلف الصحابة فيما بينهم على تفسير الإسلام. فاختلفوا في عدة المطلقة، ذهب زيد إلى أن العدة تتم بالحيضة الثالثة بينما ذهب عمر إلى أنها تتم بالتطهر من الحيضة الثالثة؛ واختلفوا في مسألة الحجامة والصوم، فقد ذهب أبو هريرة وعائشة إلى أنها تفسد الصوم، بينما ذهب زيد وعلي والحسن وغيرهم إلى أنها لا تفسده. واختلفوا بغير ذلك من الأمور الكثيرة التي أدت بالأخير لوجود مذاهب مختلفة، التي اختلفت بدورها مؤدية لانقسامات وتنوع أكثر.
يعتقد أغلب المسلمون، مهما اختلفوا، أن الإسلام كامل. مات محمد والدين مكتمل وقد حفظ بالقرآن الذي لم يتغير بعد ذلك أبداً. فوفقاً للقرآن، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر-9)، بالإضافة للأحاديث الصحيحة، البخاري ومسلم على الأقل، التي يأخذها أغلب المسلمين على أن محمد فعلاً قالها أو فعل ما تقوله.
دع عنك الاستدلال الدائري – الذي سيأتي أحدهم لينعتني بالجهل بسبب ذكري له وعدم معرفتي بالتواتر – ليس هذا ما أناقشه هنا. كما قلت سابقاً، اعتقد أن الأديان مثل الكائنات الحية، الأديان تتغير وتتطور؛ والإسلام ليس استثناء. تغير الإسلام في زمن محمد نفسه تغيرات جعلت محمد يناقض ما قاله سابقاً، استمر بالتغيير بعد مماته، ولازال يتغير ويتطور ببطء مع الوقت. وبذلك نتج لدينا اليوم نسخ مختلفة من الإسلام يناقض كل واحد منهم الآخر، بالإضافة إلى، كما رأينا سابقاً، أحاديث صحيحة تناقض بعضها. فحتى وإن قلنا بأن القرآن لم يتغير، فإن فهم القرآن وتفسيره متغير وفيه اختلافات كثيرة لا تخفى على أحد.
بعض الحكومات، خلال التاريخ الإسلامي، أرادت سلطة مطلقة، لذا فسروا الآيات بطريقة تناسب رغبتهم. وقد يكونوا قد أضافوا أحاديث اعتبرت صحيحة، بل وربما آيات. (سيرد أحدهم بالإشارة لجهلي في "علم" الجرح والتعديل. إن الأمر إذا أصبح شعاراً مكررًا، يردد على الجميع، فإن أحداً لن ينكره بعد بضعة أجيال فقط، لست هنا لمناقشة هذا، يوجد العديد من الأطروحات التي تطرقت للموضوع وهاجمت وجهة النظر الإسلامية). بعض الحكومات أرادة التوسع، أو ربما أرادوا فعلاً مقاتلة الكفار والجهاد إيماناً منهم بوجوبه، ففسروها بطريقة أخرى. واستمر الجميع بالتعديل، أو الفهم والتفسير، على الأقل، طبقاً لفكره، مصلحته الشخصية، أو مصلحة دينه، كما تفعل الحكومة السعودية، وكما يفعل أي مسلم في العالم اليوم. محمد نفسه غير رأيه عدة مرات طبقاً للحالات، صحابة محمد فهموا وفسروا الآيات والأحاديث بأشكال مختلفة كذلك. وكما لا نرى اليوم اختلافاً كبيراً بيننا وبين آباءنا وأمهاتنا، يصعب علينا تصور وجود اختلاف كبير بيننا وبين اسلافنا لدرجة أنهم كانوا يتسلقون الأشجار، بل وأن الأبعد منهم كانوا يتنفسون تحت الماء؛ وكما أن المسلمين اليوم لا يرون اختلافاً كبيراً، على الأغلب، بين اسلامهم وبين اسلام آباءهم وأمهاتهم، يعتقد المسلمون "إسلام محمد كان مثل إسلامي."
إن كنت مسلماً، أياً كان عمرك، خذ دقيقة الآن، وفكر بما تعتقده أنت عن الإسلام. (لا تستعجل، خذ وقتك وحاول أن تضع تصوراً جيداً وواضحاً للإسلام كما تراه بأموره العقدية والفقهية). بعد أن تقوم بذلك، فكر في الإسلام الذي كان والديك يخبرانك عنه حينما كنت طفلاً. قد تقول لنفسك "نعم، لقد اخطأوا بفهم بعض النقاط الصغيرة الغير مهمة هنا وهناك، ولكن ليس الإسلام الذي تغير، بل فهمي للإسلام أصبحاً أكثر صحة من قبل."
ما يمكنني أن أراه هنا هو اعتراضين لادعائي، الأول "بعض النقاط الصغيرة الغير مهمة هنا وهناك،" والآخر، "ليس الإسلام الذي تغير، بل فهمي للإسلام."
إن الاعتراض الأول يتجاهل ما قلته، وهو أن التطور والتغيير يحدث عن طريق تغيرات صغيرة عبر عدة أجيال. تتراكم حتى تصل لمرحلة ترى مذهبين مختلفين بشكل كبير حتى في أمور العقيدة، اللذان بالكاد يشتركان ببعض الأمور. هكذا يعمل التطور. إن كنت لا تزال غير قادر على رؤية ذلك فأنظر إلى المذاهب المختلف في الإسلام، في العقيدة والفقه وغيرها: سنة، شيعة، أحمدية، إباضية، صوفية، سلفية، أشعرية، معتزلة، الجبرية، الماتردية، حنبلية، شافعية، حنفية، مالكية، جعفرية، اسماعلية، زيدية، علوية، ... إلخ. حاول أن تضعهم في شجرة تصنف فيها كل تدرجهم أسفل بعضهم، ألن تبدوا كشجرة الكائنات الحية؟ جميع الكائنات فيها تعود لسلف مشترك، الذين انقسموا بوقت مبكر لديهم اختلافات أكبر من الذين انقسموا بوقت متأخر (نسبياً) بسبب تغيرات صغيرة مع زمن طويل فقط. واستمروا بالاختلاف والتغير متسببين لظهور فروع أكثر وأكثر من فروع رئيسية سبقتهم. كما يمثلها دانيل دانيت، "بعض الخصائص لأدمغتنا نشترك بها مع كائنات ابسط، وخصائص أخرى مقتصرة على نسبنا، وبالتالي، متطورة في الآونة الأخيرة."
الفرق بين إسلامك وإسلام والديك هو نتيجة لما يطلق عليه الداروينيون الاختلافات والطفرات الناتجة عن نقل المعلومات، هو نفس النوع الذي يملكه والديك الآن، كما أنك أنت من نفس نوع والديك، بشر، فالاختلاف ليس كبيراً ليجعلك، أو يجعل اسلامك، نوع جديد، مجرد اختلافات صغيرة. ولكن المسألة قد تكون مختلفة في المستقبل. في كتابه The Ancestor's Tale يشرح ريتشرد دوكنز هذه العملية بتشبيهها بشيء نستطيع تصوره، أعمارنا. لا ينام أحدنا رضيعاً ليستيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه طفل يستطيع الحديث، ولا ينام أحدنا طفلاً ليستيقظ في اليوم التالي مراهقاً، ولا ينام أحدنا مراهقاً ليستيقظ في اليوم التالي شاباً راشداً. اختر أي يومٍ تريده، سواء كنت طفلاً أو مراهقاً أو راشداً، وأنظر لليوم الذي قبله، ستجد أنك كنت في نفس المرحلة. فاختلاف المرحلة لا يقاس بيوم واحد بل بفترة طويلة من الزمن تمتد لعدة سنوات. إن كان هذا ما يحصل معنا في حياتنا التي لا تتعدى المئة سنة، فما التغيير الذي يمكن أن يحصل في فترة حياة النوع الحي في فترة تمتد من مئات الآلاف إلى ملايين السنين؟ وكذلك مع الأفكار، اسلامك هو من نفس نوع اسلام والديك، ولكن بعد عدد من الأجيال سيكون الفرق واضحاً والنوع مختلفاً.
قد لا تزال تفكر الآن، "لا، ليس الإسلام الذي تغير، بل فهمنا له. المذاهب الأخرى فهموه بشكل خاطئ. فهمهم الذي تغير وليس الإسلام نفسه،" والذي يأخذنا للاعتراض الثاني.
كما هو حال الفايروسات أو الطفيليات التي تعتمد بوجودها على مستضيف، فإن الدين هو ما تفهمه. الكلمات في القرآن، الأحاديث في البخاري ومسلم، لا قيمة لها حتى تفهمها وتطبقها، قبل ذلك، هي لا شيء. من دون عقلك الذي يستضيفها، ويفهمها، ويجعلها حية، الكلمات المكتوبة لا قيمة لها وميتة. إن مات كل البشر اليوم، حتى وإن بقيت المصاحف وكتب الأحاديث محفوظة، فإن الإسلام قد مات. فلا يمكن أن يعيش من دون مستضيف له. هي مفاهيم في عقلك، تعتمد بوجودها على فهمك لها. وبالتالي، فهمك للإسلام هو الإسلام، أو لنكون أكثر دقة، نوع من أنواع الإسلام.
إن كان هذا صحيحاً، فكيف يحق لي تسمية نوع من المسلمين بالأصوليين؟ ألا يعني هذا أن الإسلام الأصلي أنقرض؟ ليس تماماً. الاسفنج من أقدم الكائنات الحية، تطور منه كائنات أخرى مثل قنديل البحر والاخطبوط وكائنات عديدة، ولكن النوع ذاته، الاسفنج، لا يزال موجودًا. قد لا يكون نجم البحر اليوم مماثل تمامًا لما كان موجودًا قبل 600 مليون سنة، لكن الاختلاف ليس كبيرًا ليجعله نوعًا آخر. باختصار، إن كان النوع قادرًا على البقاء فسيبقى. قد يتطور منه أنواع أخرى لكن هذا لا يعني بالضرورة انقراضه.
إن فهم أحدهم لأمر ما لا يعتمد فقط على النص، فبعضهم يحكم عقله، رأيه الشخصي، قبل أن يحكم النص. نمتلك اليوم نصاً، تاريخاً، وأنواعاً مختلفة من الإسلام؛ والتي نستطيع بدراستها أن نرى كيف كانت تبدو أنواع الإسلام الأولى. إن الإسلام الأصولي اليوم هو أقرب ما يمكن أن نجده للأنواع الأولى للإسلام حسبما نرى في النصوص والتاريخ. وحتى إن أهملنا جانب التاريخ، وقلنا أننا لا نعلم كيف كانت أنواع الإسلام الأولى، فإن الإسلام الأصولي يبقى هو الإسلام الذي يطبق النص حرفياً بعيداً عن الأنواع الأخرى التي قد تقدم العقل أو الرأي الشخصي أو أمور أخرى على النقل. لذلك، نسمي ذلك النوع بالأصولي الذي تطور بشكل بطيء نسبياً. الأمر الآخر هو أن التنوع لا يعني بالضرورة انقراض السلف، فيمكن للأنواع أن تتغير ويبقى السلف موجوداً إن كان قادراً على البقاء، مع تغيرات لا تجعلنا نقول بأنه نوع مختلف.
أحب الصالحين ولست منهم:
لنعد لتجربتنا الذهنية، بعض الناس قد يقولون، "لا، لا يوجد أي فرق تماماً بين إسلامي وإسلام أبوي." هؤلاء الذين أطلق عليهم المسَلِّمون الحقيقيون. نملك أسماء ساخرة أخرى لهم: "شعب الله المختار،" جماعة "أحب الصالحين ولست منهم،" المستشرفين. هذا النوع من المسلمين لا يعلمون أي شيء عن دينهم، ولا يهتمون حتى بأن يعلموا. يسلمون عقولهم بشكل كامل لسلطة وشيوخ السلطة ليقرروا لهم، ويصدقون ببساطة ما يقوله لهم هؤلاء الحكام والشيوخ، حتى وإن كان يناقض شيء قاله نفس هؤلاء الشيوخ سابقاً. ويردون بكل حماقة وغباء حينما تبين لهم هذه التناقضات بـ "من أنت عشان تتكلم بالدين وتفتي!" ويسألون السؤال الساخر، "هذولي درسوا الدين سنين، لا يكون عندك دكتوراه شريعة؟" (متجاهلين حقيقة أن رسولهم الأعظم المدعو محمد، الذي أخذ "دكاترة الشريعة" دينهم منه، أمي تستطيع أختي الصغيرة، التي يراها هو ناقصة عقل ونصف، القراءة والكتابة أفضل منه، بل وأنها تفهم العالم بشكل أفضل منه بمراحل). وحالما تقوم بشيء لا يعجبهم، حتى وإن كانوا هم أنفسهم يقومون به، يبدؤون حالاً بالنهي عن المنكر الذي تقوم به؛ وحينما ترد، "عادي ما فيه شي!" أو "هذا من حقي وحريتي!" سيحاولون إقناعك أنه أمر "محرم في الإسلام،" والذي بالطبع يعني طبقاً لشيوخهم. وإن كنت مسلماً وكان ردك شيئاً مثل: "الإسلام لا ينهى عن ذلك،" أو لم تكن مسلماً ولا تهتم به ورددت بـ: "طيب؟ وش أسوي لأمك أنت وإسلامك؟ أنا مو مسلم" سيدخلون في نقاش معك قبل أن يظهر لهم جهلهم ويهربوا بقول، "أنا ما أفتي ولا أتكلم بالدين ..."
يقول ميل عن هؤلاء الناس بأنهم "يعتقدون بأنه يكفي الشخص أن يقبل، ومن دون شك، ما يعتقد أنه صحيح، حتى وإن كان لا يعرف أي شيء عن اساسياته أبداً، ولا يستطيع حتى الدفاع عنه ضد ابسط الاعتراضات وأكثرها سطحية،" وشكر الحظ أنهم "ليسوا بأرقام كبيرة." لقد شكر ميل الحظ في ستينات القرن التاسع عشرن، واليوم، في القرن الواحد والعشرين، أتمنى أن يعود ميل ليلقي نظرة على السعودية والعالم العربي. من بين جميع مذاهب الإسلام الموجودة اليوم، تشكل هذه الفئة الغالبية العظمى من المسلمين. يسلمون فقط لما قيل لهم من دون إعطاء أي مجهود للتفكير بما قيل لهم. ولماذا يفكرون أصلاً؟ فهم سيفعلون ما يحلوا حتى وإن كان محرماً، فهم فقط ينهون عن المنكر حينما تقوم بنفس الفعل، وسيقفون ضدك إن دعوت علناً للسماح بهذا الفعل وأنه من حق الناس القيام به إن أرادوا ذلك. فهم قد يكونون مثليين، ويدخلون في علاقات مثلية، ولكن إياك أن تتجرأ وتطالب بحقوق LGBTQ، فهي "إثم،" بل "كبيرة من كبائر الذنوب،" كما يقولون، ويضيفون، "نحن نعلم أن فعلنا محرم، ولكننا نعترف به على الأقل، ولا نجاهر به مثلك، ونسأل الله أن يغفر لنا ويهدينا."
ختام:
هؤلاء هم الخطر الحقيقي، هم لا يقتلوني وينفذون حد المثلية علي، ولا يقتلون الصحفيين الذين يرسمون دقن محمد القذرة، فقط لأن شيوخهم التابعين للسلطة أمروهم ألا يفعلوا؛ ولو كانت لديك لحية طويلة بشكل كافي، وأظهرت لهم أن داعش هي الأقرب لأيام محمد، أو على الأقل من تطبق النص كما هو من دون مجاملات، فإما أنهم سينضمون لداعش إن اشعرتهم بـ "واجبهم تجاه الأمة الإسلامية" متى ما سمحت لهم الفرصة، أو سيرمون الإسلام وراء ظهورهم. عدى ذلك، فإنهم سيبقون يتبعون حكامهم وشيوخهم في محاربة حرية التعبير في المجتمع، ورفضها "بقلوبهم" خارج مجتمعهم (في الغرب على سبيل المثال كما هو حال كثير من المبتعثين). إن كنا فعلاً نريد مكافحة الخطر، إن كنا نريد التغيير، فإننا يجب أن نظهر الرأي الآخر مع عدم إمكانية المسَّلمين الحقيقين من اسكاته.
هم يؤمنون، من دون أي دليل، بأنه لا يوجد أي حجة ضد اعتقاداتهم، وسيمنعونك بأيديهم، ألسنتهم، أو قلوبهم، إن حاولت إظهار وجود حجة ضد اعتقاداتهم من دون حتى أن ينظروا لما قد تظهره، كما حصل مع حصة آل الشيخ، فهي، كما يرون، "خطأ على أية حال، لماذا إضاعة الوقت بالنظر لها؟" ما نحتاجه هو أن نظهر هذه الحجج، عن طريق ما يحاولون محاربتهم. حرية التعبير.
مهما قاتلنا المسلمين الأصوليين فلن نتمكن من القضاء عليه، لأن المصدر الذي يأتون منه يعمل بحرية. المصدر هو الوهابية في السعودية واتباعها من المسلمين الحقيقين. قد نقاتل القاعدة وتخسر قوتها وتصبح شتاتًا في الأرض، ولكن ستظهر لنا قاعدة جديدة. قد يموت ابن لادن، ولكن سيظهر ألف غيره. قد ننهي في المستقبل الخطر القادم من داعش، ولكن سيبقى خطر تشكيل دولة إسلامية قائمًا ما دام يدرس في مدارس السعودية وكان حلم أغلبية المسلمين هناك. الحروب ليست حلًا، نحتاج إلى تنوير المسلمون الحقيقيون. لقد قام الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بعمل كبير في السنوات الأخيرة، ولكنه، عندما نظهر للأعداد الهائلة للمسلمين الحقيقيين، فإنه لا شيء يذكر؛ والمشكلة هي أن أصوات التنوير لا تصل لهم، وإن وصلت كان ذلك على استحياء. وحتى وإن كان كذلك، فإن هنالك خطر لقمع من يحاول إيصاله. ليس المسلمون الحقيقيون أناس سيئون، كل ما هم بحاجة إليه هو عرض الرأي الآخر من دون أن يستطيعوا اسكاته. حرية التعبير هي ما نحتاجه ليستطيع الجميع قول ما لديه من غير خوف، حينها فقط سننتهي من الخطر الذي يشكله الإسلام الأصولي على العالم المدني وعلى الأشكال الأكثر انفتاحًا من الإسلام. لا يزال موضوعنا في أوله، في المقال القادم سنرى تطبيقات من حياة السعوديين اليومية لما شرحناه هنا.
“نحن بحاجة إلى أن نفهم ما الذي يجعل الدين يعمل، لكي نستطيع أن نحمي أنفسنا عن طريق علمنا بالحالات التي تجعل الدين يتصرف بحماقة.” - دانيل دانيت
مقدمة:
إين ابدأ؟ الملك سلمان، بالخط العريض، يقول بأن حرية التعبير مكفولة، حسبما عنونت عرب نيوز؛ وخلال أقل من 24 ساعة، ولي العهد، محمد بن نايف، يأمر بإيقاف الكاتبة حصة آل الشيخ على خلفية مقالها الأخير الذي تناول عدة المرأة. قبل ذلك بوقت ليس بالبعيد، قتل رسامين بسبب رسمات، جلد مدون بسبب تدوينات. وكل ذلك باسم دين يعتقد الكثيرين أننا مصابين برهاب منه حينما نقول أنه يقتل من لا يتفقون معه. إن هذا المقال هو بداية لسلسلة مقالات عن الإسلام وحرية التعبير والليبرالية، سنتناول فيها أسباب نشوء الفكر الأصولي (مثل داعش)، وسنحاول إيجاد حلولٍ لتلك المشكلة. سنجد أن قمع حرية التعبير هي أساس وجود الأصولية الإسلامية. سنحاول تحليل ما يجعل الإسلام، بأحد اشكاله على الأقل، يحارب حرية التعبير والفردية. ولكن قبل ذلك سنحتاج إلى وضع بعض المفاهيم والأسس التي سننطلق منها كمنظورٍ عام. سأشرح في هذا المقال تلك الأسس، التي هي ليست إلا كيف يجب أن ننظر للدين معتمدًا على أطروحة الفيلسوف الأمريكي دانيل دانيت.
التطور الدارويني كمعادلة عامة:
قدم داروين فكرته عن التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي، وقام بإعطائنا أسلوب جديد ومختلف تماماً عما عهدناه للتفكير بالعالم من حولنا. لاحقاً، أصبحت نظرية التطور بالانتخاب الطبيعي الأساس والقاعدة التي يستند عليها علم الأحياء اليوم. كل الكائنات الحية تعود لسلف مشترك بينها جميعا، ومع ذلك، هم ليسوا مثل بعضهم البعض بسبب اختلافات، وطفرات تكدست فوق بعضها مع الزمن. البعض منها مفترس لا نستطيع ابقاءه في منازلنا كحيوانات أليفة، في حين أن آخرين مسالمين ولطيفين ولا يؤذون حتى فراشة. وحتى تلك الحيوانات، التي لا نشعر بالأمان وهي حولنا، قد يأتي يوم ما ويصبح نسلها حيوانات أليفة لنا سواء عن طريق الانتخاب الطبيعي أم الاصطناعي. خذ الذئب الرمادي على سبيل المثال، حيوان ليس من الآمن ابقاءه في المنزل، ولكن بالانتخاب الاصطناعي، ومع وقت قصير نسبياً، أصبح لدينا الكلاب. نوع من الحيوانات آمن أن نبقيه في منازلنا كحيوان أليف من دون حتى القلق من وجوده حول الأطفال الرضع.
لقد وصل داروين إلى فكرته بعد أن وجد بعض الظواهر في الكائنات الحية، مما جعله يفسرها باستخدام: 1- النسخ، 2- التنوع، 3- الانتخاب أو الاصطفاء من افضل ما في هذا التنوع. حيث أن أفضل من يعطيه اختلافه ميزه للبقاء سيبقى. أتى بعد داروين العديد من الفلاسفة والعلماء الذين أخذوا هذه المعادلة بشكل عام، فصحيح أنها مشتقة من الأحياء، لكن يمكن أخذها بشكل عام وتطبيقها مع أي شيء ينسخ، يتنوع، وينتخب.
إن الأفكار والاعتقادات تنقل من شخص لآخر عن طريق وسائط مختلفة، وبالتالي فهي 1- تنسخ. بالإضافة لنسخها، فإنها أيضًا تتنوع، فكل شخص يفهم الفكرة بطريقة قد تكون مختلفة عن الآخر، وقد يدمج بين فكرين مختلفين (من أمه وأبيه على سبيل المثال) لينتج فكرًا يجمع بينهما كما أنه هو نتيجة لتنوع بين جينات أمه وأبيه. وبذلك فإن الأفكار 2- تتنوع. بتنوع الأفكار، فإن بعضها سيكون أقوى من غيره في البقاء لصفات تميزه عن غيره، منها قوة الاقناع وما إلى ذلك، فالأفكار الغير مقنعة تموت ولا يعتنقها أحدها وتبقى الأفكار الأكثر اقناعًا. وبذلك يكون لدينا 3- انتخاب.
الأديان كأيديولوجيات خاضعة للمعادلة الداروينية:
عندما نتكلم عن الدين، فنحن نتكلم عن أفكار. والأفكار مختلفة، بعضها جيد والآخر سيء، والبعض أسوء من غيره. يوجد العديد من الأديان حول العالم، والتي تدعي ادعاءات مخالفة عن الواقع تضر بشكل أو بآخر في النهاية. ولكنها، على الأقل، لا تدعو لقتل البشر حرفياً بفصل رؤوسهم عن أجسدهم فقط لأنهم لا يتفقون معها. في المقابل، لدينا تلك الأديان، التي تشترك بسلف مشترك قديم بينها، على استعداد لتدمير أي شيء يخالفها ولا يتفق معها مهما كان ذلك الشيء. وعلى الأحرى أنك الآن تفكر بالأديان الابراهيمية الثلاثة.
في هذا الزمن، هذه الأديان الثلاثة هي الأديان الرئيسية ليست كأي دين آخر. فهم كالطفيليات التي تتحكم بأدمغة حامليها، و "تجعلهم،" كما يضعها كريستفور هيتشنز، "يقومون بأفعال خبيثة؛" ومع ذلك، فإن بيئاتهم مختلفة، مما جعلهم مختلفين. كما حدث مع الكلاب، بعض هذه الأديان أصبحت أقل خطراً بسبب كثير من الضغوط والعوامل التطورية التي سيطرت على بعض الميمات السيئة أو تخلصت منها في بعض الحالات كسبيل للبقاء في العالم، كما يتخلص الانتخاب الطبيعي من الصفات التي تعيق بقاء الكائن الحي، سواء بانتخاب طبيعي أو صناعي. وبئلك نقول أن الأفكار والإيديولوجيات، بما فيها الأديان، تنسخ مثل المعلومات للكائنات الحية، الكاينات الحية تنسخ عن طريق الجينات، والأفكار تنسخ عن طريق الميمات. وبما أنها تتنوع حسب فهم الشخص واستقباله لها، وحسب تنوعها فإن بعضها سيكون أكثر اقناعًا وقدرة على البقاء من غيرها، فإننا يمكن أن نطبق الداروينية على الأفكار. (الميم: مصطلح أبتكره ريتشرد دوكنز في كتابه The Selfish Gene يقابل الجين لدى الكائنات الحية ولكنه لدى الأفكار والعادات الاجتماعية).
ومع ذلك، لا يزال نوع أو نوعان لا تزال تشكل خطراً وتظهره من دون حرج (مثل المسيحية في حزام الكتاب المقدس في الولايات المتحدة الأمريكية)، ولكن هذه الأنواع في خطر وعرضة للانقراض، ليبقى أنواع معاصرة ضررها يمكن التحكم به لحد كبير. (كلامي هذا لا يعني أن الفروع المعاصرة غير مضرة، أو أنها لا تبحث عن قتلي، بل كلها تنهل من نفس الكتاب، وكلها تحوي على الميم الذي يسبب كل هذه المشاكل، الإيمان، والذي ناقشته في مقال سابق ووضحت المشكلة فيه. ولكننا وصلنا لطرق للحد من ضررها والتحكم بها ومعالجتها مع الوقت).
اختلاف الإسلام:
لا يزال أحدها خارج نطاق تحكمنا بشكل كبير. منفرداً عن الآخرين، يغرد الإسلام وحيداً ليصبح أيقونة العنف الديني في زماننا. هذا لا يعني أن كل المسلمين يريدون قتلي، فبعضهم لا يأخذون دينهم بشكل جدي وإن أنكروا ذلك. ومع هذا، فإن عدد كبير يريدون قتلي بغض النظر عن الظروف، أما الغالبية، فتتمنى ذلك ولكنها لا تستطيع ببساطة لأسباب سأشرحها لاحقاً في هذا المقال. إن الذين يريدون قتلي بغض النظر عن الظروف غالباً يتهمون بأنهم "أساءوا فهم الإسلام،" ولكن هذا ليس حقيقياً، فهم لا يتبعون "إسلاماً متطرفاً" كما يزعم نقادهم من المسلمين، بل، في الواقع، يفهمون الإسلام جيداً، هم مسلمون فقط. "الإسلام،" أساساً، ليس "ديناً للسلام." كل ما في الأمر أن بعض المسلمين طوروا ما يشابه نظام المناعة الذي يقف ضد الميمات السيئة في الإسلام، أو أن فكرتهم للإسلام فقدت بعض ميماتها الضارة بدافع عوامل تطورية.
بالتالي، حينما نقول أن الإسلام أسوء من غيره، فنحن لسنا عنصريين، ولسنا نتكلم عن أشخاص؛ بل نحن نتكلم عن أمر طبيعي يستند على التاريخ التطوري للإسلام، عن الميمات التي تشكله وتعطيه صفاته، بالإضافة إلى البيئة التي يتواجد فيها الإسلام اليوم وتجعله ما هو عليه. هذه الأمور تميز الإسلام عن غيره من كثير من الأديان الأخرى التي إما تكون قد تخلصت خلال تاريخها التطوري من الميمات الضارة، لا تحتوي هذه الميمات الصريحة لقطع الرؤوس، أو أنها مجبرة على عدم استخدامهما بسبب البيئة التي تتواجد فيها. وبذلك نقول، الإسلام يجعل المسلمين يقومون بأمور خبيثة. إنه دين رئيسي اليوم لا يهدد فقط العالم المدني والليبرالي، بل حتى الديانات الأخرى والأشكال الأقل خطراً من الإسلام ذاته. وبما أني أتيت من خلفية مسلمة، وأنه هو أكبر المؤثرين في حياتي، وبما أن خطره هو أهم خطر اليوم من بين جميع الأديان، فإني لن أناقش أديان أخرى غيره، كخطوة قد نصل بها إلى طريقة نتعامل بها معه.
الإسلام ضد الحرية:
يحق لنا التساؤل الآن، ما الذي يجعل الإسلام ما هو عليه اليوم؟ لن أذهب بعيداً في الزمن؛ وسأحاول التركيز على الوقت الحالي. فنانين ساخرين رسموا بعض الرسمات عن محمد، والتي "جعلت" مسلمين، ليسوا متطرفين، بل مسلمين أصوليين يقومون بمهاجمتهم وقتلهم بسبب "ازدراءهم للإسلام." بعد ذلك أتت الدول الإسلامية، بما فيها السعودية، والتي تعتبر "بلاد الإسلام والشريعة" تدين الاعتداء الإرهابي. يومين بعد ذلك، نفس الدولة التي أدانت الهجوم على حرية التعبير من الإرهابيين في فرنسا ضد الرسامين تحت ذريعة "ازدراء الإسلام،" تبدأ جلد المدون رائف بدوي تحت نفس الذريعة، "ازدراء الإسلام." وتدينه لإنشائه منتدى على الإنترنت "مسيء للشريعة الإسلامية." كما نستطيع أن نرى، فإن السعودية تدين الاعتداء على حرية التعبير، وفي ذات الوقت، تحاربها بين مواطنيها. لماذا؟ لحماية الشريعة التي تحمي عرشهم. هل يوجد ميمات في الإسلام تجعله يحمي نفسه ضد حرية التعبير؟ ما هي؟ ما الذي تقوم به حرية التعبير لتجعل هذه الأديان الشبيهة بالطفيليات تجعل حامليها يهاجمونها (حرية التعبير)؟
ختام:
هذا ما سأحاول الإجابة عليه في المقالات القادمة؛ ولكن قبل ذلك، لدي بعض الأمور التي أريد ايضاحها. حينما أقول قوانين الإسلام أو قوانين الشريعة، أو قوانين السعودية (الداخلية)، فإني أتحدث عن ذات الشيء تقريباً. الفارق الكبير موجود فقط في تعديل الحكومة السعودية قوانين الإسلام حينما يكون تعاملها مع الدول الأخرى، ولكن حينما يصبح الموضوع داخل السعودية، فقوانين الإسلام والسعودية واحدة إلى حد كبير، حسب مصلحة الدولة. أمر آخر يجب إيضاحه هو أني لست فيلسوفاً، ولا عالم اجتماع أو سياسة، ولست متخصص في النظرية التطورية الدارونية. لكني شاب، مسلم سابق، يشارك أفكاره وما يعرفه عن الإسلام والمجتمعات الإسلامية. أفكاري هنا قد لا تكون جديدة في كل ما سأقوله، لكني لم أرى على الأقل أحداً يضع النظريات المستخدمة هنا بشكل تطبيقي، وحتى وإن حصل، فإني أشاركها على أي حال، عل مزيداً من تسليط الضوء عليها قد يفيد قضيتنا بشكل أو بآخر. وقد لا تكون أفكاري هنا صحيحة حتى، وإن لم تكن، فأرجوا الإشارة لأخطائي، لأن أفضل طريقة للتعلم هي عن طريق ارتكاب الأخطاء. كما يقول دانيل دانيت، الذي اعتمدت هنا على أطروحة من اطروحاته، "الناس بمختلف أنواعهم يحبون تصيد الأخطاء. [...] دعهم يفعلون! في جميع الأحوال الكل مستفيد." ترقبوا المقالات القادمة.
قرأت لميرل ميلر مؤخرًا، ووجدت لديه تعريفات شدت انتباهي. تعريفات سأقدمها هنا بطريقة تتناسب مع القارئ العربي. نجد أن العبد، في أحيانٍ كثيرة، هو صاحب البشرة الغمقة خارج الغرفة. وابن المتعة هو الشيعي خارج الغرفة. والحفاة العراة هم السعوديون خارج الغرفة. والإرهابي هو المسلم ... خارج الغرفة أيضًا. أما الخنيث أو الخكري، في المقابل، فهو المثلي، ولكن في الغرفة. لا يتردد أحد بأن يقول هذه المسميات، التي يقصد منها الإهانة والتجريح، في حضور المثلي المقصود إهانته بها ومن دون حرج.
حينما قمت بفتح حسابي على تويتر كان هدفي من ذلك هو نشر الوعي حول الميول الجنسية ومساعدة المثليين والمثليات في تقبل ميولهم. وفي مسعاي لذلك تحدثت إلى العديد من الأفراد من شبان وشابات من مختلف الأعمار والجنسيات، والثقافات والاعتقادات، وكان ممن تحدثت إليهم شاب مثلي، نحيل الجسد، ووسيم الملامح، في السابعة عشر من عمره. يعيش هذا الشاب مع عائلته، ويواجه مشكلة في إيجاد علاقة مناسبة. ويرى أن الآخرين يستغلونه أو يرفضونه.
من حديثي معه ومعرفتي له لفترة طويلة تحدثنا كثيرًا، ومما وجدت أنه قد تعرض للرفض من والده، الذي كان ينعته بعبارات انتقاص بسبب اظهاره لسلوكيات غير ذكورية-تقليدية، أي سلوكيات عادة ما تعتبر أنها أنثوية. ويستمر تفريق والده بينه وبين اخوته، حيث يحرم مما لا يحرمون منه، ويعامل بشكل سيء من دون أدنى احترام له ولإنسانيته: يضرب بعنف، يرمى جسده النحيل بالأرض ويقف والده بكامل وزنه على رأسه، ليضيف إلى ذلك مختلف عبارات الإهانة والتجريح أمام الجميع حتى اخوته وأخواته، مسببًا له مختلف الآلام الجسدية والنفسية.
لم استغرب كثيرًا حينما ذكر لي أن الجميع يرفضه في العلاقات، وأن الجميع سيرفضه في المستقبل، فهذا أمر متوقع أن يشعر به. حينما يولد الطفل، فإنه يمتلك حاجة طبيعية للحب، هذه الحاجة تساعده في البقاء. حيث يبكي الطفل عند حاجته لها، فيقوم الوالدين بتوفير الرعاية له. ومن هنا يبدأ برؤية فائدة حاجته للحب ويكون مفهوم لها، حيث يساعده طلبه للرعاية والحب على توفير ما يحتاجه من أمور أخرى للبقاء. بل وأنه تبين أن فقدان العاطفة من حياة الطفل المبكرة، ومع توفير الاحتياجات الأخرى، تقلل من احتمالية بقائه.
في بعض الحالات يحرم الطفل من هذه الميزات، ويمنع من المطالبة والتعبير عن احتياجاته لسبب أو لآخر. في حالات، يقوم الوالدين بزرع فكرة الاستقلالية مبكرًا في طفلهما، ففي مجتمعاتنا ينظر للرجل على أنه يجب أن يكون مستقلًا ويعتمد على نفسه. فنجد كثيرًا من الأهل حينما يبدأ الطفل بإظهار حاجته للحب حينما تنقصه، بالبكاء أو الغضب، يجد ردًا من والديه بأن يكون أبنًا "مهذبًا وبارًا،" وأنه "لم يعد طفلًا." فيبدأ الطفل بالاعتياد على عدم تلبية احتياجه العاطفي، ويبدأ بشكل تدرجي بفقدان شعوره بأنه محتاج لذلك. إن هذا الأمر مدمر لنفسية الطفل، فهو بحاجة إلى تلقي الحب لكي يقدر ذاته ويكون صورة أنه يستحق أن يُحَب.
قد بينت دراسات عديدة ومختلفة أن الأطفال المثليين يميلون لإظهار سلوكيات غير تقليدية جندريًا، حيث يميل الذكور، على سبيل المثال، لإظهار سلوكيات تصنف على أنها أنثوية. وبعيدًا عن مصدر تلك السلوكيات، سواءٌ كان بايولوجيًا أو اجتماعيًا، فإن الأطفال المثليين، في المعدل، يظهرون سلوك واحد أو أكثر غير تقليدية لجنسهم. فنجد الطفل المثلي يميل للعب مع الفتيات أكثر من اللعب مع الأولاد، يميل للبعد عن العنف أكثر من قرنائه الذكور، يميل للعب بالعرائس والدمى أكثر من لعبه بالمسدسات والألعاب الرياضية والعنيفة بعض الشيء.
يجب أن نوضح هنا نقطتين مهمتين، الأولى هي أن هذا لا يعني أن كل مثلي يجب بالضرورة أن يظهر هذه السلوكيات في مرحلة طفولته، نحن نتحدث هنا عن المعدل فقط وليس الأفراد. من ناحية أخرى، يجب أن نعلم أيضًا أن إظهار سلوكيات غير تقليدية جندريًا في مرحلة الطفولة لا يعني بالضرورة بأن الطفل سيصبح مثليًا، بل أنه حتى 50% ممن يظهرون هذه السلوكيات في مرحلة طفولتهم يكونون مغايرين. ولكن ما نقوله هو أن أغلبية المثليين يظهرون هذه السلوكيات في مرحلة الطفولة، وليس كل من يظهر هذه السلوكيات في مرحلة الطفولة مثليين.
إن هذه السلوكيات في مرحلة الطفولة تجعل كثير من الآباء والأمهات يعترضون على سلوكيات أبنائهم، لأنها "عيب" و "تشبه بالنساء" فيزرع لديه العار من تصرفاته وسلوكيات، فهؤلاء الآباء والأمهات يرون أن خروج أبنهم بهذا الشكل سيعني بأنهم "لم يحسنوا تربيته." فهم لا يريدون من ابنهم أن "يكون خنيث." وللأسف لا يعلم هؤلاء الآباء والأمهات أن تصرفهم هذا هو أول رهاب مثلية قد يتعرض له طفلهم، وأصعب ما قد يتعرض له وقد يعاني منه طوال عمره، لأنه يهدم ثقته بنفسه، ويجعله يحاول أن يكون "أبنًا صالحًا" حسب مفهومهم وليس حسب حاجاته وذاته. فينكر ذاته ورغباته واحتياجاته. وتبدأ مشكلته من والديه الذين بجهلهم أضروا بابنهم لحساب "شرفهم" و "سمعتهم" و "سمعة تربيتهم" المزعومة التي انتهكوها باعتدائهم على ابنهم وهدمهم لثقته بنفسه.
إن الطفل المثلي معرض لهذا الرفض في مرحلة الطفولة أكثر من غيره بسبب رهاب المثلية ورفضها، والذي ينعكس مستقبلًا على صحته ويسبب المعاناة لها، حيث ينشأ لديه اعتقاد بأنه سيواجه بالرفض دائمًا، وأن احتياجه العاطفي لن تتم تلبيته من أحد. يعاد تكرار هذا الأمر مجددًا بسبب رهاب المثلية، فبسببها يخشى أن يصرح المثليون بمثليتهم، ويزيد احتمال اعجابهم بقرناء مغايرون في المدرسة، الاعجاب والميل العاطفي الذي يقابل بالرفض مؤكدًا فرضيتهم السابقة بأنهم سيواجهون بالرفض دائمًا، وأنهم لا يستحقون المحبة والقبول والعطف. وبهذا يدخل المثليون بدائرة مفرغة عند بلوغهم الرشد، فحتى عند خروجهم من الخزانة ووجود شخص يبادلهم المحبة، نجد من يمرون بهذه المرحلة يعانون من عدم ثقتهم بشركائهم، الأمر الذي يدفع شركائهم لتركهم، وبالتالي أثبات آخر لفرضيتهم بأن أحدًا لن يحبهم، بل وأنهم لا يستحقون أن يُحَبوا، وسيعانون دائمًا من الرفض، وأن كل من يدخل حياتهم سيتركهم عاجلًا أم آجلًا.
إن هذه الحالة من عدم إمكانية إيجاد شريك، بالإضافة لعدم وجود ثقة وتقدير للذات لدى المثلي بسبب ما تربى عليه بأن سلوكياته "عيب،" وأنه يجب أن يخجل منها، يضاف إليهم رفض المجتمع له، فنجد مصطلحات مثل "خكري" و "خنيث" تمارس كتحقير وازدراء للمثلي في عائلته، في المدرسة، وبعد الرشد، التي يهرب منها برفضه لنفسه وتجاهله لذاته بحثًا عن إرضاء الآخرين بدلًا من إرضاء ذاته. ويخفي نفسه في الخزانة المظلمة، التي ما إن تتمكن منه حتى يسيطر ظلها عليه، فلا يستطيع الخروج منها، خوفًا من رفض المجتمع له. الأمر الذي يجعله عرضه للاكتئاب الحاد، الذي يزداد بعدم وجود شخص يوفر له الحب والعاطفة التي يحتاجها بسبب ما شرحناه سابقًا.
لقد كنت في الخزانة سابقًا، وأعلم جيدًا ظلامها ومعاناتها، وخروجي منها كان سبب محاولتي لمساعدة غيري للخروج منها، وتوعية الآخرين بضررها علينا. لا أحد يسحق أن يكون هناك، ورهاب المثلية يدفع المثليين دفعًا لأن يبقوا فيها. الأمر الذي يزيد من معاناتهم.
لن نستغرب بعد معرفة هذه الأمور أن الاكتئاب ترتفع نسبته بين المثليين، وأن معدلات الانتحار ترتفع لديهم، حيث أن المثليين يعانون من معدلات انتحار أعلى من نظرائهم المغايرين، ويزيد ثنائيي الميول عن المثليين بسبب ما يحصل لهم من اضطهاد ورفض أكثر من نظرائهم المثليين والمغايرين سويًا. لا يستطيع عاقلٌ أن يتجاهل أثر رهاب المثلية على هذه الأقلية في المجتمع التي ذنبها الوحيد أنها تحب. لقد جعلنا الحب محرمٌ عليهم، وجعلناه مشاعرهم واحتياجاتهم ذنبًا وجريمة. هذا كل ما في الأمر، جريمة المثليين أنهم يحبون كما يحب أي فرد آخر في المجتمع. فعاقبناهم منذ طفولتهم بهدم ذواتهم وعدم احترامها، واستمرينا بفعل ذلك في مراهقتهم، فدمرنا ثقتهم بانفسهم وبالآخرين، وجعلنا مسألة ارتباطهم بمن يحبون صعبة. ولم نكتفي بذلك، بل أجبرناهم على التزام الخزانة، وهددناهم بأبشع العواقب إن خرجوا منها، وألزمناهم بأن يخجلوا من أنفسهم، أن يخجلوا من مشاعرهم وأحاسيسهم واحتياجاتهم، كما جعل أسلافنا قبلنا من يختلف عنهم بلون البشرة يخجل من بشرته، ويكرهها، ويكره ذاته. لا لشيء إلا لأنه مختلف.
أي قلب نملك نحن من ندعي الإنسانية؟ نتسبب بزيادة معاناة غيرنا وندمر حياتهم، لماذا؟ ما هو الضرر الذي تسببوا به لنتسبب لهم بهذه المعاناة والبؤس؟ لا شيء. لماذا إذًا؟ إن رهاب المثلية يقوم بهذا وأكثر، وما ذكرته هنا ليس إلا مرور سريع على أمور على السطح فقط، ومن هذه الأمور فقط يتبين ما يقوم به رهاب المثلية من زيادة في معانة بشر مثلنا. يضن من يحاربون المثلية أنهم سيغيرون المثليين، في حين أنهم يزيدون معاناتهم لا أكثر برفضهم لهم. بماذا نختلف عمن اساءوا معاملة غيرهم من البشر بسبب بشرتهم؟ لا شيء، لكنا ندعي الرحمة والإنسانية ونحن أبعد ما نكون عنها.
في مجتمع مصاب بالعنصرية قد لا نجد الكثيرين الذين يطلقون لفظ العبد أمام أصحاب البشرة الغامقة، فقط من ورائهم، مؤدين لإنتاج أجيال جديدة من العنصريين في المدارس، وكراهية كامنة تظهر مع أول فرصة تجدها. يجب أن ينتهي رهاب المثلية ليس فقط أمام المثليين، بل حتى في غيابهم، بيننا وبين أنفسنا. وإلا سيبقى لفض خنيث مثل لفض عبد، يطلق في غياب الشخص مؤديًا لمجتمع مصاب برهاب المثلية يعاني فيه المثليون، ويلزمون الخزانة بسبب ما واجهوه في المدارس وبين الأهل والأصدقاء قبل خروجهم من الخزانة. بعد خروجي بفترة طويلة ومعرفة الجميع بمثليتي، يعتذر لي بقية زملائي من وصف أحدهم لي بالخنيث في حضوري أثناء مناسبة ما، هم نفس الزملاء الذين اعتادوا وصفي بذلك سابقًا في حضوري. يبدو أن الخنيث قد أصبح المثلي، ولكن حينما يغادر الغرفة.
بدين أو بدونه، سيقوم الأخيار بفعل الخير، والأشرار بفعل الشر. ولكن لتقنع الأخيار بفعل الشر، فأنت بحاجة إلى الدين.- ستيفن واينبرغ
ملاحظة: قد يتردد لفظ مؤمن بصيغة عامة في هذا المقال،والحقيقة أن المؤمن المقصود هنا هو المؤمن المدعي بأن الأخلاق لا يمكن أن تكون إلابالدين والإيمان بالله.
0-0 مقدمة:
لا يكاد أن يوجد لاديني لم يواجه سؤالًا مشابهًا لهذا:"إن لم تكن تؤمن بالله، فما الذي يمنعك من القتل، والسرقة، والاغتصاب، ... إلخ؟"يضع المؤمنون هذا السؤال موهمين به الجميع، حتى أنفسهم، أن الله هو ما يمنعهم من الأفعالاللاأخلاقية، في حين أن افتراض ذلك يجعل العكس هو الصحيح. سيكون موضوع مقالنا اليومهو أحد أهم الأسس في فلسفة الأخلاق، الذي عادةً ما يقتصر على أن الأخلاق لا تحددبالدين، ولكني لن أقف عند ذلك، بل سأذهب إلى أنه بالإضافة إلى أن الدين ليس مصدرًا للأخلاق، فإن الإيمان بالله كالمصدر الوحيد للأخلاق يزيل كل الموانع من أمام الأفعال غير أخلاقية.
سيقتصر حديثنا هنا عن إله بصفات محددة، خالق للجميع ومطلق العلم، مما يجعله يعلم ما ينفع لكل خلقه؛ بالإضافة إلى أنه مطلق العدل والخير، وبالتالي، فأي حكم يطلقه يأتي من معرفة، وحكمة، وعدل، وخير مطلق لمخلوقاته. كما يضعها أحد الدواعش بعد أن اعترض كثير من المسلمين في تويتر على تهجير مسيحيي الموصل قائلا: "أيوجد مسلم يعارض حكم الله في النصارى؟! أتظن أنك أعدل من الله في خلقه؟!" سنرى أن جعل الله مصدر الأخلاق خطأ شنيع، وسنرى أنه يقود لأفعال غير أخلاقية، بل ويتم تبريرها على أنها قمة الأخلاق والعدل. لنصل إلى نهاية مقالنا بأن جعل الله المصدر الوحيد للأخلاق، أو سبب الأفعال الأخلاقية الوحيد (وسأوضح الفرق بينهما لاحقًا في هذا المقال)، يجعل كل شيء مباح.
0-1 مبحث الأخلاق:
إن ادعاء المؤمنين بأن عدم وجود إله يجعل كل شيء مباح سطحي جدا، ولا ينظر للعمق الموجود في مسألة الأخلاق والدافع الأخلاقي، ولا إلى التبعات التي تنطوي على هذا الادعاء. في المسألة الأخلاقية، يوجد لدينا مسألتين مهمتين. الأولى معرفية، والثانية تطبيقية. تهتم الأولى بالأمر المعرفي: التمييز بين الأفعال الصائبة والخاطئة وكيفية معرفة كل منهما. أما الثانية فتهتم بالدافع الذي يجعلنا نتصرف طبقا لمعرفتنا. وبعبارة أسهل، القسم المعرفي يهتم بالإجابة على سؤال: "ما هو الصائب وما هو الخاطئ أخلاقيا؟" في حين يهتم التطبيقي بالإجابة على سؤال: "لماذا أقوم بالتصرف الصائب بدلا من الخاطئ؟" سنبحث اليوم بشكل عام الجانبين، سننهي بالجانب التطبيقي، ولكن قبله سنحتاج لبعض التحليلات والتدقيقات في القسم المعرفي.
1-0 هل يعلم المؤمن الصائب من الخاطئ؟
لا يقدم المؤمن، الذي ينكر الأخلاق عن غير المؤمنين، أي اسلوب معرفي يجعله يحدد الصواب من الخطأ عدى قوله "الله قال لي ذلك" أو "القرآن يخبرني أن هذا الفعل صائب/خاطئ" ولا يضع أي مبادئ لتحديدهما سوى ذلك، لأن أي اسلوبٍ آخر منفصل عن الدين سيجعله وغير المؤمنين متساوين في امكانية معرفة الصائب من الخاطئ أخلاقيًا وحينها لن يستطيع أن ينكر الأخلاق عنهم.
إن هذا الأسلوب يعني أنه يحدد الصائب من الخاطئ عن طريق أوامر الله أو المتحدث باسمه سواء في القرآن أو البخاري أو الكافي أو البهاغافاد غيتا أو أيًا كان ما يؤمن به. وبهذا نستطيع القول أن المبدأ الأخلاقي لهذه الفئة من المؤمنين هو "الخير هو ما يأمر به الله والشر هو ما ينهى عنه." ولكن هذا الأسلوب يطرح مشكلة معروفة ومن اساسيات فلسفة الأخلاق، تدعى هذه المشكلة بـEuthyphro Dilemma وهي فكرة من أحد حوارات افلاطون. وملخص المشكلة في هذين السؤالين في الحوار التالي:
الشخص الأول: كيف تحدد الأخلاقي من الغير أخلاقي، الصائب من الخاطئ، الخير من الشر؟
الشخص الثاني: ما يأمر به الله خير، وما ينهى عنه شر.
الشخص الأول: هل يأمر الله بالخير لأنه خير أم أنه خير لأن الله أمر به؟
1-1 تحليل المشكلة:
يوجد حالتين، إذا كان أمر ونهي الله هو ما يحدد الخير والشر، فماذا لو أمر الله بأمر مثل تعذيب الأطفال أو قتلهم؟ هل يجعل ذلك تعذيب الأطفال أمرًا أخلاقيًا؟ قد يعترض أحدهم بأن الله لا يأمر بشيء كهذا. لكن ردي ببساطة "لماذا؟" إن قيل: "لأنه فعل غير أخلاقي" أو "لأن الله لا يأمر بأفعال غير أخلاقية،" قلنا: إذًا ليس أمر الله الذي يجعل فعلًا ما أخلاقيًا أو غير أخلاقي، بل أن الله أمر بالفعل لأنه أخلاقي، ليس العكس. وبذلك نعود للسؤال الأول: "كيف تحدد الصائب من الخاطئ أخلاقيًا؟" أو، بعبارة أخرى، "ما الذي يجعل الخير خيرًا؟" هذه نقطة، النقطة الثانية أن الله، فعلًا، أمر بــ، أو لم ينهى عن، ــأمور تأخذ على أنها غير أخلاقية اليوم، ختان الأطفال، الزواج من القصر، قتل المخالفين أو بعضهم والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم، استعباد البشر، ومعاداة النساء، على سبيل المثال لا الحصر. (قد لا يتفق الجميع على أن هذه الأمور غير أخلاقية، ولكن اثبات أنها أعمال غير أخلاقية مسألة أخرى تحتاج لمقالات أخرى). وكالعادة، سيرد بعضهم بـ ١- "أنت لم تفهم الإسلام الصحيح،" ويفسر هذه الأوامر بطريقة أخرى، كأن يجعل "اضربوهن" تعني "فارقوهن،" أو يلقي باللوم على الحكام في التاريخ الإسلامي بقول: "لم تفهم! هذا ليس من الإسلام الصحيح بل من أفعال الأمراء والحكام الذين أغتصبوا وتاجروا بالبشر،" وكلا هذين الردين تحت "أنت لم تفهم الإسلام الصحيح." يوجد ردود أخرى ومنها ٢- الردود التبريرية، وتكون على نحو "يا جاهل! لله حكمة في ذلك،" ومن ثم توضع قصص خرقاء مثل مبايض اللحيدان أو غدة العريفي لتبرير الأوامر الغير أخلاقية كالتمييز العنصري بين الرجل والمرأة واعتبار المرأة نصف للرجل وناقصة عقل. أو قد ٣- يقفل رأسه، ويتجاهل كل ما يراه أمام عينه، ويردد "الإسلام كرم المرأة،" وما إلى ذلك من الردود والكليشيهات المتداولة.
إن هذه الردود تدخلنا في مسألة تنوع التطبيق، والتي سأناقشها لاحقًا في نهاية هذا المقال، ولكن الآن يكفينا أن نقول بأن هذه الردود مجرد تهرب لا تحل المشكلة الأساسية في سؤال: ماذا لو أمر الله بأمر مثل قتل الأطفال هل يصبح أخلاقي أم لا؟ فببساطة إذا كان الخير والشر يحدد بما يقوله الله فإن الإجابة على السؤال هي نعم، وأما إن كانت لا، فهذا يعني أن أمر الله لا يحددها.
1-1-1 التفسير:
هنا يبدو الأمر واضحًا وراء مصدر الأخلاق، فقراءة أوامر الله تأتي عادة موافقه لرؤوية الشخص الأخلاقية، فما يراه غير أخلاقي يرفض أن يكون من الله، ويرجع الخطأ للفهم وليس للنص، وبالتالي يعيد تفسير الأمر بطريقة تتوافق مع أخلاقه. وهذا يجعل لديه مبدأ وحكم أخلاقي منفصل عن الله، في حين أن من يطبق أمر الله يطبقه كما هو من دون "مجادلة الله." ومن ثم يبرر أنه خير لأن "الله أمر به." ولكننا رأينا كيف أن هذا سيجعل القتل أمرًا أخلاقيًا، وبالتالي، فإن أي شيء يمكن أن يكون مباح مع الله. عدى ذلك، فإن الإجابة على السؤال هي "لا، أمر الله بقتل الأطفال لن يجعل من قتلهم أمرًا أخلاقيًا." وبالتالي، فإن من يحدد الصواب والخطأ عن طريق أوامر الله يذهب للإجابة الأخرى، الله يأمر بالفعل لأنه أخلاقي. ومن هنا نعود للسؤال الأول، كيف تحدد الأخلاقي من الغير أخلاقي؟
1-1-2 "لله حكمته"
يجب أن نعطي رد "لله حكتمه في ذلك" مزيدًا من الاهتمام، فهو الرد الذي نراه أمام أعيننا في الواقع المأساوي الذي نعيشه كل يوم، حيث يقوم بعض المؤمنين بأبشع التصرفات من ختان الأطفال حتى استعباد البشر وقطع الرؤوس والأيادي، و "لله حكمته في ذلك،" أو كما قال الداعشي: "أيوجد مسلم يعارض حكم الله في النصارى؟! أتظن أنك أعدل من الله في خلقه؟!" لا يوجد سبيل لمن يقول "لله حكمته في حجاب المرأة/اعتبارها نصف" للرد على سؤال الداعشي عدى أن يعود لـ "أنت منت فاهم الدين." الذي يأخذنا للمشكلة التفسير أعلاه.
نفس التبرير يستخدم منهم جميعًا، فرقهم عن الداعشي أن أفعالهم أقل سوء من الداعشي بشكل أو بآخر. فقيادة المرأة ليست كحرق أحدهم حيًا. يمكن لك، عزيزي القارئ، اختبار ذلك بنفسك. سواءًا كنت مؤمنًا أم لا، ابحث عمن يرى الأخلاق حكرًا عليه. تستطيع إيجادهم بسهولة، ابحث عن أحد الأصوليين أو المحافظين، أو أحد أفراد جماعة أحب الصالحين ولست منهم. ثم اسأله "لو كنت في موقف ابراهيم، وأمرك الله أن تقتل ابنك، هل ستقدم على ذلك؟"
في افضل الحالات سيحاول التهرب، بجميع الاتجاهات، من دون جدوى. سيقول أمور مثل "هذا امتحان" أو "بالأخير لم يقتل ابنه" التي هي تبريرات ونوع من "لله حكمة من وراء ذلك،" حيث أن "الحكمة" هنا هي "رؤية صدق إيمان ابراهيم." ولكن كل ذلك عبارة عن استخدام لمغالطة red herring التي يقوم مستخدمها بإضافة أمور لا تغير من مسار الحجة لمجرد تشتيت الإنتباه، وتفريق الحجة، والخروج عن الموضوع. فبالأخير، سواء قتل الطفل أم لم يقتله، لا شيء يتغير، الإقدام على قتل طفل بحد ذاته فعل دنيء ومنحط، ولا يقدم عليه إلا سايكوباث مريض. ومع قليل من الضغط والاصرار على الإلتزام بالنقاط الاساسية، إما أنه سيعود لرشده ليقر بأن مصدر أخلاقه ليس الله، أو أنه سيفضح هشاشة مبدأ تحديد الأخلاق بأوامر الله وسيقول "سأفعلها." حينها، دعه يعش في وهمه، فقد أثبت أن كل شيء مباح مع الرب.
1-2 تلخيص التحليل:
· إذا كان الخير والشر تحدد من أوامر الله فإما أن 1- الفعل أخلاقي لأن الله أمر به، أو أن 2- الله أمر بالفعل لأنه أخلاقي أصلّا.
o الخيار الأول يجعل أي فعل يأمر به الله أخلاقيًا وبالتالي، فإن حجتنا تصح حينما نقول بأنه مع الله كل شيء مباح، وليس العكس.
o أما الخيار الثاني فإنه يجعل الله يأمر بما هو أساسًا خير، وبالتالي، فإن الخير منفصل عن أمر الله، مما يجعلنا نطرح السؤال، مالذي يحدد الخير والشر؟ لأننا من دون معرفتهما لا نستطيع القول بأن الله يأمر بالخير، فكيف علمنا أن الله يأمر بالخير إن لم نكن نعلم ما هو الخير مسبقًا؟
1-3 تقسيم خاطئ:
أحد الردود المعروفة على هذه الحجة هي أن هذا التقسيم يرتكب مغالطة التقسيم الخاطئ، أي أنه يوجد خيارات أخرى غير: ١- الفعل أخلاقي لأن الله أمر به. ٢- الله أمر بالفعل لأنه أخلاقي أصلّا. ويطرحون أن الخيار الثالث وهو أن "الخير من طبيعة الله، الخير هو الله ذاته."
ليس هذا الحل إلا تهربًا من التقسيم، ومن خلال اعادة نفس العمل السابق مع إضافة وتعديل بعض الكلمات سنجد الخيار الثالث مجرد تمويه يسقط سريعًا إلى التقسيم السابق.
إن قول "الخير من طبيعة الله" يجعل لدينا مفهوم لما هو خير، وبهذا يكون سؤالنا "كيف علمنا أن الخير من طبيعة الله؟" عدى ذلك، فما هو خير محدد بطبيعة الله، أو، بعبارة أصح، الخير هو طبيعته، فيصبح السؤال "ماذا إن كانت طبيعة الله تأمرنا بقتل الأطفال أو تعذيبهم؟"
كما نرى، الخيار الثالث ليس إلا محاولة مراوغة تسقط في التقسيم السابق بمجرد اعادة صياغة الاسئلة، وبالتالي فالتقسيم صحيح.
1-4 الحل الوحيد:
إن المهرب الوحيد الذي يمكن للمؤمن أخذه لكيلا يصبح ادعائنا بأن كل شيء مباح مع الله هو الخيار الثاني، أن يقر بأن معرفة الخير والشر منفصلة عن الله، وأنه يوجد طريقة غير "أمر الله" نحدد بها الصائب من الخاطئ أخلاقيًا. وبذلك، لا يملك المؤمن أي تميز معرفي عن اللاديني في معرفة الصواب من الخطأ. ويصبح كلاهما متساوي بإمكانية معرفة الصائب والخاطئ، وأن هذه المعرفة منفصلة عن الله والدين يستطيع الإنسان الوصول لها من دون الحاجة لهما.
ولكن قد يشدد المؤمن المصر على احتكار الأخلاق باسمه أن "هذا لا قيمة له،" يقول المؤمن، "فما فائدة أن تعلم ما هو خير وما هو الشر ولا تلتزم بهما؟" ويدعي بعد ذلك أن "السبب الوحيد الذي يجعل العالم يتصرفون بشكل خير هو أمر الله لهم،" حيث أن أمر الله هو الجانب التطبيقي وليس المعرفي. فحتى وإن علم أحدهم أن القتل لا أخلاقي، فإنه بحاجة لما يجعله يتصرف طبقًا لهذه المعرفة، أي "ما الذي يجعلني أقوم بالخير بدلًا من الشر وأمتنع عن الشر بدلا من أن أمتنع عن الخير؟" يدعي بعض المؤمنين ممن يعتقدون أن الأخلاق أمر محتكر لهم أن الإجابة الوحيدة على هذا السؤال هي "الله،" وبالتالي، عدم الإيمان به لا يجعل لدينا، كملحدين، أي سبب لفعل الخير وترك الشر. فيصبح، حسبما يدعون، كل شيء مباح من دون الله.
2-0 الجانب التطبيقي:
الآن، لا فرق بين الملحد والمؤمن من الناحية المعرفية، عدى ذلك سيكون ما ندعيه صحيح بأن كل شيء مباح مع الله. لكن ماذا عن الجانب التطبيقي؟ هل حقًا أمر الله هو السبب وراء فعل الخير وترك الشر؟
2-1 الطاعة:
قلت في بداية هذا المقال أن الإله الذي نتحدث عنه يمتلك صفات معينة، صفات مثل أنه مطلق الخير والعلم والحكمة. إله بهذه الصفات بالإضافة إلى تعاليم العبادة والطاعة الديكتاتورية، التي يتشبثون بها كدافع لفعل الخير، تجعل المبدأ الأول وراء الدين هو طاعة الله في أي أمر كان. الدين يختصر بعبارة "يجب طاعة الله طاعة عمياء والاستسلام له."
إن أمر إله كهذا بالخير، فإن المؤمن يطبق ويتبع الأوامر، وبغض النظر عن السبب وراء طاعة الله، سواء كان الحصول على الثواب وتجنب العقاب، أو إرضاء الخالق، فإن المؤمن يدعي أن الدافع الوحيد لفعل الخير هو أمر الله به. وهنا يأمر الله بالخير، والمؤمن ينفذ. أي أن المؤمن يفعل الخير ليتبع أمر الله، ولو لم يوجد أمر من الله فلا دافع له لفعل الخير، مما يعني أن كل المسألة طاعة.
لكن إن كان الأمر كله طاعة، فماذا يحصل لو أمر الله بالشر؟ لمؤمنين في هذه الحال خيارين منطقيين لا ثالث لهما. الخيار الأول هو تنفيذ أمر الله وقتل الطفل، والثاني هو عدم تنفيذ أمر الله.
2-1-1 التنفيذ:
في الخيار الأول يثبت ببساطة أن مع الله كل شيءٍ مباح، وأن المؤمن سينفذ ما يأمره ربه به حتى وإن "بدى" الأمر لا أخلاقيًا. سواء كان الفعل حرق أسير، رمي مثلي، ورجم أحداهن لمجرد ممارستها لوضيفة فيسيولوجية، لا يهم، فمع الله، كل شيءٍ مباح. فهو، كما قال الداعشي، أعلم وأعدل منا في خلقه، وما يبدو شرًا لا بد أن يكون خيرًا لأن من أمر به يمتلك تلك الصفات. وبما أن الدافع الوحيد لفعل أمر ما هو طاعة الله، فليس للمؤمن إلا السمع والطاعة، حتى وإن كان يرى الفعل غير أخلاقي.
2-1-2 عدم التنفيذ:
الخيار الثاني للمؤمن هو عدم التنفيذ، في هذا الخيار، يتصرف المؤمن طبقًا لما يراه أخلاقيًا بغض النظر عن أمر الله. وبالتالي، فإن أمر الله ليس له أي قيمة أخلاقية تطبيقية. وبما أن المؤمن تصرف أخلاقيًا من دون أمر الله، فهذا يعني أنه لا يملك أي أفضلية في الجانب التطبيقي من الأخلاق على الملحد. وبما أننا ناقشنا سابقًا القسم المعرفي وأوضحنا أن امكانية معرفة الصواب والخطأ لا علاقة لها بالدين، فإننا نصل لأنه لا يوجد أي أفضلية أخلاقية للمتدين على اللاديني سواء في الجانب المعرفي أو التطبيقي.
2-2 الله لا يأمر بالشر:
طرحت هذا الإعتراض ورددت عليه أعلاه، والآن نضعه للمرة الأخيرة مع شرحه بطريقة أخرى تتناسب مع الجانب التطبيقي لننهي به حديثنا. بغض النظر عن إمكانية ذلك من عدمها، يعتقد المؤمن يقينًا أن الله مطلق الخير وأنه أعلم منه، فإن قيل: "لا يأمر الله بالشر،" قلنا: 'ولكن الله مطلق العلم والحكمة، أما أنت فمحدود العلم، "قد يكون من وراء ذلك حكمة تجهلها،" إن كان سببك الوحيد لفعل الخير هو أمر الله فيجب أن تطبق حتى وإن بدى شرًا، لأن معرفتك للخير والشر قائمة على طريقة تعتمد على علمك المحدود ولا علاقة لها بالدين كما أتفقنا سابقًا. بما أن تحديدك للخير والشر مبني على علمك المحدود، حسب إيمانك، فيجب أن تطيع مطلق الحكمة وتطبق أوامره. وإن لم تطبق، فإن طاعة الله ليست سببك لفعل الخير وترك الشر ولكن أمر آخر، لأنك بترك ما أمرك الله فعلت ما تعتقد أنه صواب والذي يخالف ما أمر الله به."
يجب أن يعلم أني:
· لا اتحدث هنا عن القسم المعرفي بل العملي. فالمؤمن هنا يعلم، بطريقة منفصلة عن الدين، أن الفعل س غير أخلاقي.
· يعلم المؤمن يقينًا أن الله مطلق الخير ولا يمكن أن يأمر بفعلٍ سيء.
· يعلم المؤمن أن علمه محدود وأن الله مطلق العلم والحكمة.
وبأخذ هذه النقاط في الحسبان، بالإضافة إلى أمر الله للمؤمن بفعل س، فإن المؤمن أمام خيارين:
· الله مطلق الخير والحكمة، وأنا محدود العلم. أعلم أن س غير أخلاقي، ولكن الله يأمر به. إذًا يجب أن أفعل ما أؤمر لأن الله لا يمكن أن يأمر بما هو شر.
· الله مطلق الخير والحكمة، وأنا محدود العلم. أعلم أن س غير أخلاقي، ولكن يبدو أن الله يأمر به. إذًا يجب أن يكون هنلك خطأ في فهمي، والله لم يأمر بذلك.
إن هذين الشخصين هما الاختلاف في االتطبيق. يشترك كلاهما بأنه يضع اللوم على جهله، ويختلفان فيما يفترضان وجود جهلهما به. ففي حين يفترض الأول جهله بالحكم الأخلاقي للفعل س: "قد يكون فعل س أخلاقي، فحكمي الأخلاقي نابع من علمي المحدود لا أكثر،" يفترض الثاني جهله في فهم الأمر الإلهي ذاته بفعل س: "فهمي لأمر الله نابع من علمي المحدود، قد أكون مخطئ في فهم معنى الآية. لذا لن أفعلها."
من البديهي أن لا أحد يمكنه معرفة ما يجهل، فإن علم أحدهم ما يجهل لم يعد جاهلًا به. بأخذ هذا في الاعتبار، فإن الثاني لا يملك أي شيء يجعله يختار وضع جهله في الفهم بدل وضع جهله في الحكم الأخلاقي كما فعل الأول. بينما يمتلك الأول أفضلية الإلتزام بمنطقه. إن هذا المنطق يفترض أن الدافع الوحيد لفعل الخير هو طاعة الله. وبالتالي، فإنه لا سبب للثاني في ترك فعل س. فعدم تنفيذه لـ س يعني أنه تصرف بـ "عدم تنفيذ س،" وبما أنه لا يوجد نهي إلهي بـ "عدم فعل س،" فإن الشخص الثاني أمتلك دافعًا آخر غير أمر ونهي الله، والذي يناقض افتراض أن الدافع الوحيد لفعل الخير وترك الشر هو أمر ونهي الله. فبينما يلتزم الأول بمنطقه الذي يقود بالنهاية إلى أن كل شيء مباح مع الله، يتخلى الثاني عن ذلك المنطق ويتصرف حسبما يراه هو صائبًا من دون أمر إلهي. فيفقد أفضليته الأخلاقية المزعومة على الملحدين في كلا الجانبين المعرفي والتطبيقي.
3-0 ختام:
مما سبق نقاشه وشرحه نقول: إن المؤمنين يقفون أمام خيارين، إما أن يبقوا على موقف يجعل كل شيء مباح مع الله، أو أن يقبلوا أن الأخلاق ليست حكرًا عليهم وأنها أمر يمكن الوصول له والتصرف حسبه من دون الحاجة لأوامر إلهية.
رسالتي لمن كان له عقل: لست بحاجة أحتكار الأخلاق لك لتثبت أنك على صواب، أو لتشعر نفسك بقيمة ما تعتقد به. إن افتراض أنه من دون دين تنهار الأخلاق والقيم افتراضٌ باطل، بمجرد افتراض صحته واختباره نراه ينهار على نفسه بسبب تبعاته المنطقية التي تناقض الافتراض ذاته وترينا العكس، كما يقول سلفوج زيزاك: "دائما ما نسمع الادعاء بأنه من دون إله يصبح كل شيءٍ مباحًا. الواقع يخالف ذلك، نظرة للحادي عشر من سبتمبر ترينا أن مع الإله .. كل شيءٍ يصبح مباحًا."
كتبت قبل بضعة أسابيع مقال عن الحجة من قانون الطبيعة التي استخدمها تومس أكواينس ضد المثلية الجنسية (إن لم تقرأه مسبقاً فمن الأفضل قراءته قبل إكمال هذا المقال). وحتى اليوم، لم أجد من يرد عليها رداً حقيقياً. بل أني لا أتوقع أن يوجد رد حقيقي على ذلك، فقليلون جداً من يأخذون حجة أكواينس بجدية اليوم، وأغلبهم كاثوليك أو متأثرين بفلسفة أكواينس الدينية. إلا أن أحدهم قام "بالرد" بشكل يبدوا للوهلة الأولى منطقياً، وأضع رد بين تنصيص لأنه حقيقة لم يرد على أي مما قلته. كل ما قام به هو 1- تجاهل جميع الاعتراضات والثغرات التي نقدت بها الحجة من قانون الطبيعة ضد المثلية، و 2- أعاد طرح النظرية بتكرار ما بها كشريط قديم عالق يعيد تكرار نفسه مراراً.
في النقد، يجب أن نولي اهتمام للرأي الآخر واعتراضاته، وأن نرد على الاعتراضات التي تواجه نظريتنا. وليسفقط إعادة ذكر نظريتنا كأننا صم لم نسمع أي من الاعتراضات التي وجهت ضد طرحنا. يحاول البعض أن يبدو على حق مهما كلف الأمر، فيتجاهل الاعتراضات ويشعرالمستمع أنها غير مهمة أو غير حاضرة، وهذه خدعة سياسية تستخدم في فن الاقناع. ولكن بعض الأحيان تكون الاعتراضات أكبر من أن يتم تجاهلها، مثل الفيل الموجود في غرفة؛ تستطيع التظاهر بتجاهله، لكنك لن تستطيع حقاً تجاهله أو أن تجعل الناس يتجاهلونه.
بالرغم من أن ما سأذكره هنا قد ذكرته في مقالات أخرى، وبالرغم من أن المعترض لم يرد علي حتى، بل أن كل ما قاله تم الاعتراض عليه مسبقاً، إلا أني أحببت أن أضعه بشكل علمي مع تفصيل لنقاط معينة. تجاهل المعترض كثير من الاعتراضات والأسئلة التي طرحتها، وذهب مباشرة لنفس الحجة التي اسقطتها في المقال، كما سنرى، والتي ليست فقط لا تستند على أدلة علمية، بل تخالف كثير من الدراسات والأبحاث التي سأوضحها. وأحب أن أنوه، أن مقالي هنا سأكتبه بشكل أكاديمي مدعم بالمصادر، وعلى من أراد الرد أن يرد ليس فقط على الاعتراضات وحسب، بل أن تكون ردوده مدعمه بالمصادر الأكاديمية، عدى ذلك، فإن رده مضيعة للوقت ولن أعيره أي اهتمام.
الغرض الطبيعي في البداية:
ستيورت: حسناً شيلدن، تأخر الوقت. يجب أن أذهب لأنام.
شيلدن: إذاً، أنا فزت.
ستيورت: لا، أنا متعب.
شيلدن: إذاً، أنا فزت.
ستيورت: حسناً، أنت فزت.
شيلدن: بالطبع، أنا فزت.
في مسلسل The Big Bang Theory حصل حوار بين شيلدن، وستيورت، قام فيه شيلدن باستنتاج أنه أنتصر "لأن ستيورت يريد النوم."
1- ستيورت متعب.
2- إذاً، شيلدن أنتصر.
لا دخل بين انتصار شيلدن في خلافه مع ستيورت حول "الوريث الشرعي منطقياً لقناع باتمان في حال موته" بنعاس ستيورت، فستيورت كان مصيباً منذ البداية. ولكن شيلدن استخدم حاجة ستيورت للنوم على أنه دليل على فوزه. ما نراه هنا أن المقدمة المنطقية "ذهاب ستيورت لنوم" لا ينتج منها بالضرورة أن "شيلدن أنتصر." يسمى هذا النوع من المغالطات المنطقية بـ (non sequitur) وهو استنتاج أمر ما من مقدمة منطقية لا تنتج منها النتيجة.
لنبدأ مع أول اعتراض. قام "المعترض" بجعل الإنجاب كـ الغرض الوحيد للجنس. وبالرغم من أني وضعت ردوداً كثيرة على ذلك، وبالرغم من أنه قرأ هذه الردود، إلا أن البعض يقرأ لمجرد الرد وليس للفائدة. فلم يجب بفرضيته على أهم الأسئلة التي طرحتها لمن يدعي أن الجنس غرضه الوحيد هو الإنجاب مثل " إن كان الغرض الطبيعي للجنس هو الإنجاب فقط، فلماذا، وبعكس أغلب الثدييات، تطور إناث البشر بشكل يجعلهم يخفون الوقت المناسب للإنجاب؟" المذكور في المقال. على كل حال، لنبدأ من حيث بدأ المعترض.
يقول المعترض بأن "الغاية" من وجود الرغبة الجنسية كان الإنجاب، فالرغبة الجنسية أتت لتحفزنا على الإنجاب فقط. كلامه سليم إلى حد الآن، ولكن المشكلة تكمن في أنه يستخلص منها نتيجة لا تتبع ولا تنتج منها:
1- نشأت الرغبة الجنسية [قبل ملايين السنين] للإنجاب.
2- إذاً، الرغبة الجنسية [اليوم وبعد ملايين السنين] لم تتغير وليست إلا للإنجاب.
إن ابسط اطلاع على التطور يجعلنا نعلم أن هذا الكلام باطل، فالتطور قائم على التغيير والبقاء للأصلح. لا يكترث التطور بما "كان مفيداً" بل بما هو مفيد الآن. وكون الرغبة الجنسية بدأت كحافز للإنجاب فقط فإن هذا لا يعني أنها كذلك بالضرورة اليوم كما كان الحال في الماضي. ابسط مثال على ذلك هو تطور الأطراف والأصابع، فهي بدأت كعظام رقيقة للسباحة (زعانف) وليست للإمساك بالأشياء أبداً. واليوم، لا تستخدم الأصابع لـ "الغرض-الأول-الذي-وجدت-له" بسبب تغير حدث لها من ZPA. ولا يقف الأمر هنا، بل أن التعدد والتنوع موجود في أنواع أخرى كالطيور، على سبيل المثال، التي تستخدمها للطيران وليس للسباحة! السؤال الآن، إن كان فعلاً "الغرض-الأول-الذي-وجدت-له" هو الغرض الطبيعي والذي لا يجب أن يتغير ويجب أن يبقى، فهل هذا يعني أن استخدامنا اصابعنا للإمساك بالأشياء مخالفة لطبيعتها؟ وهل تخالف الطيور طبيعتها، أيضاً، بالطيران بدلاً من السباحة؟ (Shubin).
ما يطرحه هذا الاعتراض ببساطة هو أن النتيجة لا تتبع من المقدمات المنطقية المطروحة (non sequitur) كشيلدن حينما يستنتج انتصاره من ذهاب ستيورت للنوم. إذاً، كون أمر ما بدأ لفائدة معينة فإن هذا لا يعني بالضرورة أن 1- هذه الفائدة يجب ألا تزول ولا يحل مكانها فائدة أخرى، 2- يجب ألا تبقى مع تطور فوائد أخرى بجانبها أكثر أهمية منها، 3- ولا حتى، على الأقل، تبقى مع وجود فوائد أخرى. لذا، فإن كون الرغبة الجنسية وجدت للتكاثر في بدايتها (كما وجد أصل الأصابع لتشكيل الزعانف والسباحة)، فإن هذا لا يعني أن التكاثر يجب أن يبقى أو يكون الغرض الأهم أو الوحيد.
عدم الإنجاب وضعي:
ادعى المعترض أن عدم الإنجاب من الأمور الوضعية والقوانين البشرية، ومع أن هذا، كسابقه، لا يجعل المثلية غير أخلاقية وإن صح، إلا أنه خاطئ. ادعاءه في البداية لم يستند على أي أدلة، مجرد كلام قام هو بذكره لا أعلم من أين. بينما تشير الأدلة البايولوجية لعكس ذلك تماماً. ومع أني ذكرت هذا في المقال السابق بشكل واضح جداً، ومع أن المعترض قرأه وتجاهله ولم يجب على أي من الإشكالات التي يطرحها افتراضه، إلا أني سأعيدها مرة أخيرة مع ذكر المصادر.
اعتقد العلماء في السابق أن الإنجاب هو الغرض الوحيد، أو الأهم، من الجنس، ونجد ذلك واضحاً في الكتابات التي تذهب إلى النموذج التقليدي الذي يرجح أن الجنس للإنجاب، وأشهر من يذهب إلى ذلك عالم النفس التطوري ستيفن بينكر؛ إلى أن نقد كبير قدم لهذا النموذج مؤخراً من متخصصين في التطور والأحياء والأنثروبولوجي في مؤلفات وأطروحات علمية كثيرة جعلت من النموذج التقليدي أمر بعيد عن الواقع. (لمن آراد المزيد أنصح بكتابي Conundrum لـ N. J. Peters و Sex at Dawn لـ Christopher Ryan و Cacilda Jetha).
تشير الأدلة بكل وضوح إلى أن الجنس لدى البشر يحدث لأمور أخرى غير الإنجاب كتعزيز الروابط الاجتماعية واللهو (Fleischman). ومن أهم الأدلة على أن الإنجاب ليس الغرض الوحيد، ولا حتى الأهم، "بايولوجياً،" فقدان إناث البشر لخاصية التنبيه لعدم إمكانية الحمل. فكما ذكرت في المقال السابق: " في أغلب الثدييات، تحدث تغيرات في أعضاء الأنثى كتضخم حجمها واحمرارها كعلامة على الجاهزية لإخصاب." بالإضافة إلى تطويرهم لرغبة جنسية حاضرة في أي وقت، عكس أغلب الثدييات التي لا تتفعل عندها الرغبة الجنسية إلا عند إمكانية الإنجاب، بعبارة أخرى، فإن إناث الثدييات الأخرى "لا يبدين أي اهتمام للجنس إلا في فترة الإخصاب" والذي ذكرته أيضاً في المقال السابق وتم تجاهله (Ryan, 58). فقداننا لهذه الخاصية الموجودة في أغلب الثدييات، وتطوير رغبة جنسية نشطة وحاضرة في كل وقت حتى في وقت عدم الإنجاب يعني أن ممارسة الجنس أثناء إمكانية الإنجاب فقط لم تكن استراتيجية تطورية ناجحة، مما أدى إلى انقراضها واختفائها من اسلافنا، وأقول "اسلافنا" لأننا نشترك مع البونوبو في هذه الصفة، والذي يعني أنها تعود إلى سلفنا المشترك قبل 5 ملايين سنة، بالتحديد في جين (AVPR1A) الذي يحتوي على ما يسمى (repetitive microsatellite) والذي يلعب دور مهم في افراز هرمون (oxytocin) المهم في المشاعر الاجتماعية مثل "التراحم، الثقة، الكرم، الحب، وبالتأكيد الإثارة الجنسية" (Ryan, 72). فمسألة ممارسة الجنس لعدم الإنجاب مسألة طبيعية لدينا نحن البشر في جيناتنا من سلفنا الذي عاش قبل أكثر ما يقارب الخمس ملايين سنة. انكار هذه الصفة هو إنكار للمشاعر الروابط الاجتماعية التي تميز العلاقة الانسانية، ويرجاعنا إلى صفات سلف كان يزحف على بطنه.
ليس ما أقوله أمراً غريباً أو صعب التصور، فتطوير صفات جديدة يحدث كل الوقت. في البداية، كانت وضيفة الدماغ الحركة فقط، واليوم، غرضه الأول لدينا هو التفكير والسؤال. وسيرث هذه الصفة، إن كانت نافعة تطورياً، الأجيال القادمة منا. توارثنا نحن والبنوبو خاصية ممارسة الجنس من غير إنجاب تعني أننا ورثناها من سلف مشترك بيننا والذي تطورت لديه وربما قبله لفائدة تطورية كبيرة. إن الإنسان كائن اجتماعي بامتياز، ويعد كبر حجم دماغ البشر من جراء حاجاته الاجتماعية كتطوير اللغة، الذي بدوره أصبح ميزة للبقاء؛ فكيف يستغرب حينما يقال أن الترابط الاجتماعي من أهم، إن لم يكن أهم، أغراض الجنس؟ كيف يستغرب ذلك والجنس يمارس ليل نهار لهذا السبب أكثر من كونه للإنجاب في كل وقت من غير إنجاب؟ يبدو من الصورة في الأعلى أن البونوبو لديهم قوانين وضعية للحد من الإنجاب كذلك.
الزراعة:
عكس ما يدعي المعترض، فإن القوانين الموجودة حول الجنس اليوم هي من نتاج قوانين وضعية، ليس هذا قول بخطئها بالضرورة، فأنا لا أحدد أصلاً الصواب والخطأ بما هو طبيعي أو غير طبيعي، ولكن للرد أنه حتى مع افتراض أن الطبيعة تحدد الصواب والخطأ، تبقى الطبيعة مع وليست ضد المثلية. بل وأن القوانين التي يتشدقون بها هي الخارجة عن الطبيعة. تحديد الجنس بالزواج، ومنع عدم الإنجاب قوانين حديثة، بسبب ما ذكرناه عن وجود الممارسة لغير الإنجاب لدى سلف مشترك قبل 5 ملايين سنة. مما يعني أن "الجنس للإنجاب فقط" أمر حديث، ويرجح العلماء أنها قوانين نشأت بنشوء الزراعة لأسباب اقتصادية لتحديد الممتلكات والسيطرة، وقد شرحت كيف يستخدم ذلك للسيطرة في دماغ الأرنب.
شهوة لا تؤدي غرضها:
ادعى المعترض أن المثلية، والممارسات الجنسية التي لا تؤدي إلى إنجاب، "شهوة لا تؤدي غرضها." إن صحة هذا الادعاء تعتمد على صحة أن الجنس للإنجاب فقط، وهو ما رددت عليه وبينت خطأه أعلاه، فإن كان الإنجاب ليس الغرض الوحيد والأهم للرغبة الجنسية، فإن تلبية الأغراض الأخرى يجعل هذه "الشهوة" تؤدي غرضها. وكما بينا، اغلب الرغبة الجنسية لدى البشر ليست بأي شكل من الأشكال للإنجاب، مما يعني أن الجنس من غير إنجاب لا يعني أنه لا يؤدي غرضه. لا يقف الأمر هنا، بل أنه يواجه تحدي أصعب من ذلك، فهذا الادعاء يفترض عدم وجود اختلاف في الميول، وكأن كل البشر ولدوا ليكونوا غيريين وينجبوا. فلكي يكون الغرض من الجنس الإنجاب لدى جميع الناس، يلزم أن يكون الجميع غيريين. لأنه لو كان يوجد تنوع في الميول، فإنه سيوجد مثليين. وبما أن الجنس لدى المثليين لا ينجب، فإن هذا يخالف أن يكون الجنس للإنجاب لدى الجميع. إن هذا الافتراض، عدم وجود تنوع في الميول، يواجه جدار صعب من الأدلة البايولوجية التي تشير لعكس ذلك تماماً.
إن دراسة مثل دراسة سايمون ليفي تشير لوجود اختلافات بايولوجية بين من يظهر ميول مثلية وميول غيرية لا يمكن أن تحدث إلى في مراحل النمو المبكرة جداً. بالتالي، فإن المثلي يولد بصفات مثلية، واختلاف الميول موجود بايولوجياً (LeVay, 1991). بالإضافة إلى إقرار المتخصصين في الصحة النفسية والعقلية بأن التنوع في الميول أمر طبيعي من تنوعنا واختلافنا كما نختلف بألواننا (APA). بالتالي، المثليين ليسوا "غيريين يريدون تفريغ شهواتهم فقط." هذا غباء وتجاهل، أو جهل، بالأدلة. وبما أن المثلية موجودة بشكل طبيعي فإن هذا يعني أن لدينا أن تنوع في الميول. والذي يعني أن الجنس لدى بعض البشر، على الأقل، ليس للإنجاب. فتصبح حجتنا:
1- تنوع الميول يعني وجود مثلية.
2- لا إنجاب في الممارسة المثلية.
3- وجود تنوع طبيعي للميول يعني أن الجنس، لدى البعض على الأقل، ليس لغرض الإنجاب طبيعياً.
4- يوجد تنوع طبيعي في الميول.
5- إذاً، الجنس، لدى البعض على الأقل، ليس لغرض الإنجاب طبيعياً.
خروج عن قانون الطبيعة ودخول في النفعية:
في آخر حديثه أشار المعترض لنقطة عن استفادة الأرض من الإنجاب، والذي يمكن قراءته بصورتين. الصورة الأولى عن طريق نظرية قانون الطبيعة، والذي وإن فعلناه سيجعل الحجة غائية ويفترض وجود "عناية وقصد" خارجي، بالتالي، شيء ما كالعناية الإلهية. وهو أمر لا أستطيع أخذه بجدية. أما الصورة الثانية فهي من نظرة عواقبية نفعية، وهما النظريتان اللتان لا تلتقيان أبداً. ولكن حتى مع النفعية، فإن الحجة غير قادرة على الصمود لعدة أسباب.
أولاً، تعتمد النفعية، سواء نفعية جون ستيورت ميل، أم نفعية بابر السلبية، على زيادة الرفاه وتقليل المعاناة. ويجب أن نعي أن ميل يركز على زيادة الرفاه من على سبيل "سعادة من سماع بيتهوفن." وبما أن الأرض لا تسعد ولا تعاني، فاستخدام حجة نفعية للأرض منافٍ للعقل! قد يقال أن الرفاه للأرض رفاه لنا، وهذا ما يأخذنا للاعتراض الثاني.
ثانياً، زيادة السكان تستهلك الموارد المحدودة، مما سيؤدي لعواقب مثل المجاعات، ارتفاع تكلفة اساسيات الحياة، وعواقب أخرى تزيد المعاناة ولا تعود بالرفاه للجنس البشري. أما عن نقطة أنهم سيعطون الأرض بعد موتهم، فما سيعطيه الجسد البشري للأرض بعد موته قد أخذه قبل ذلك منها، أعاد جزء مما أخذه أثناء حياته، ويعيد ما تبقى بعد موته. أما البترول ومصادر الطاقة، فزيادة السكان تستهلكها ولا تزيدها فتكوينها طبيعياً يحتاج لفترات طويلة من ترسب وضغط وحرارة ولا يتشكل بالطريقة المعروضة من المعترض بشكل طفولي بعد موت وتحلل أحدهم. كل ما ذكرت لا يعود بالرفاه للجنس للبشري، فعن ماذا يتحدث المعترض هنا؟ لا أعلم!
البقاء:
إن أول اعتراض يخطر على البال على فكرة أن المثلية ستسبب الانقراض هو عبارة مقتبسة من دانيل دانيت يقول فيها أن "الممكن افتراضياً ليس بالضرورة ممكن واقعياً." فلا يمكن في الواقع أن يصبح جميع البشر مثليين، حجتهم أن "قبول المثلية سيجعل مزيد من الناس مثليين،" ولكن هذا غير صحيح علمياً، وهو أمر مستحيل لمن يعي كيفية تشكل الميول الجنسية. ومع تقبل المثلية في دول مختلفة حول العالم المثليين (الذين لا يشتركون بعلاقة غيرية أبداً) بقيت نسبتهم تتراوح ما بين 4-6%. وبالرغم من وجود المثليين وتقبلهم في دول كثيرة، فإن معدل النمو السكاني، طبقاً لموقع worldometers، هو 1.14%. (يمكن زيارة الموقع والنظر لعدد سكان الأرض وهو يزداد كل لحظة). أي أننا نضيف أكثر من مليار شخص كل عشرة سنين. ولكن حتى لو افترضنا أن اسطورة "اكتساح المثليين" ممكنة واقعياً، فإن هذا الاعتراض اعتراض من التبعات، بالتالي فهو يتبع النظرية العواقبية النفعية. وكما قلنا، فإن النفعية تبحث عن زيادة الرفاه وتقليل المعاناة. لنقم بتجربة ذهنية ونرى إن كان انقراض البشرية بسبب أن "الجميع مثلي" يزيد المعاناة.
إن كان لدينا أناس مثليين، فإن اتباعهم لميولهم يزيد من سعادتهم ولا يحزنهم. إن كان المثلي لا يريد الإنجاب فإن عدم إنجابه لن يسبب معاناة له. ولن تكون هنالك معاناة "لأبنائه المفترضين" لأنهم اساساً غير موجودين. بالتالي، فإن انقطاع نسله لا يسبب معانة له ولا لأبنائه "المفترضين". وستكون المعانة الوحيدة هي في اجباره على عدم اتباع ميوله، واجباره على الإنجاب في حال لم يرد الإنجاب، الذي أيضاً سيسبب معاناة لأبنائه "المفترضين" فيما لو أتوا.
لنطبق هذا على جميع أفراد عالمنا المثلي، الجميع مثلي، والجميع لا يريد الإنجاب. من سيعاني؟ لا أحد، اجبار أحدهم على عدم اتباع ميوله أو الإنجاب هو ما يسبب المعاناة. إن كان أحدهم مثلي ويريد الإنجاب، فلا بأس، يستطيع فعل ذلك، لكن لا يمكن إجبار من لا يريد الإنجاب على الإنجاب.
إن المعاناة الوحيدة التي يمكن تخيلها هنا هي اجبار فرد أو مجموعة أفراد على عدم اتباع ميولهم الغيرية أو إجبار من يريد الإنجاب على عدم الإنجاب. ولكن كوني مثلي أطالب بحقوقي لا يعني أني سأجبر الآخرين على اتباع ميولي، وأني سأجبر الجميع على ألا ينجبوا. هذه حماقة وخيال طفولي لا أكثر.
كان هذا الاعتراض الأول على مسألة البقاء والانقراض. والاعتراض الثاني هو أن استراتيجية الإنجاب بأعداد كبيرة ليست استراتيجية بشرية خصوصاً، ولا في الثدييات عموماً. في الأسماك، تضع الأنثى البيوض ليأتي الذكر لاحقاً ليلقحها. والذي يجعل التيار يجرف عدداً كبيراً من البيوض، وعدد آخر لا يتم تلقيحه. لو أن نوع من الأسماك وضع بيضة أو بيضتين أو حتى عشرة بيوض لأنقرض هذا النوع. لكن الأسماك تقوم بوضع المئات من البيوض، ويتلقح عدد قليل جداً من هذه البيوض، وينجو عدد أقل لا يجرفه التيار ولا تأكله كائنات أخرى. ولو أن جميع هذه البيوض نجت لما بقي مكان على الأرض للكائنات الأخرى.
على عكس الأسماك، تختلف استراتيجية الثدييات في البقاء. فبدلاً من الإنجاب بأعداد كبيرة تقوم الثدييات بالإنجاب بأعداد صغيرة، وتركز على هذا العدد الصغير وتقدم له الرعاية والحماية لتضمن استمراره ونجاته حتى يصبح قادراً على رعاية نفسه. ومن بين جميع الثدييات، البشر هم الأكثر تشدداً في استخدام هذه الاستراتيجية. فالطفل البشري يحتاج لفترة رعاية أطول من غيره من صغار الثدييات الأخرى، التي تحتاج إلى رعاية ولكن ليس بالقدر الذي يحتاجه الطفل البشري. ويبدو هذا واضحاً حينما نرى عدد الصغار الذين تحملهم الأنثى من الثدييات الأخرى، أنثى القط على سبيل المثال، ونقارنها بأنثى البشر.
إن العلاقة بين عدد الأطفال والرعاية المقدمة علاقة عكسية، فكلما كان لديك صغار أكثر كلما تقلصت كمية الرعاية التي يتلقاها الواحد منهم، في حين أنه كلما قل العدد كلما زادت الرعاية للفرد. وبالنظر للفترة الطويلة التي يحتاجها صغير البشر للرعاية، فإن عدم الإنجاب لفترة طويلة يزيد من الرعاية المقدمة له، وبالتالي يساعد على بقاء النوع. هل يريدنا أصحاب هذه الحجة أن نبقى من غير جنس حتى نستطيع رعاية طفل آخر؟
نستطيع أن نرى هذا واضحاً، ففي المعدل، نجد من يكبرون في عائلة فيها الكثير من الأبناء والبنات أقل كفاءة وقدره على النجاح من نظرائهم الذين يكبرون في عائلات صغيرة بعدد قليل من الأبناء والبنات. (الحديث هنا بشكل عام وليس حالات خاصة). وليس هذا غريباً، فعدد كبير يجعل الرعاية الموجهة لكل طفل أقل، مما يؤدي إلى نجاح من يحصل على رعاية أكثر بشكل أعلى منه. ومما نرى، فإن الإنجاب ليس العامل الوحيد في البقاء، فالرعاية لدى البشر لها أهمية أكبر من الإنجاب بأعداد كبيرة. ويدعم ذلك ما نشره موقع منظمة (healthy children) التابعة للأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (American Academy of Pediatrics)، حيث تأكد المنظمة أن العائلة ذات العدد القليل من الأطفال توفر:
1- كل طفل يتلقى رعاية أكبر وميزات تعليمية، والذي بشكل عام يرفع من أحترام-الذات لديه.
2- الأطفال في العائلات الصغيرة، بالذات الأول والوحيد، يميلون لأن يحققوا مستوى إنجازات دراسية وشخصية أعلى من نظرائهم في العائلات الكبيرة (أبناء أكثر).
3- التكاليف المالية للأسرة تصبح أقل. (بالطبع هذه مهملة منهم، فالمولود يأتي "ورزقه معه").
4- يسهل على الآباء والأمهات الجمع بين الواجبات العملية والأسرية. (حتى هذه مهملة، فـ "المرأة مكانها البيت تربي عيالها").
5- مستوى التوتر يقل بسبب وجود مشاكل وتحديات أقل.
وهنا تظهر لنا أحد الفوائد التطورية للعلاقات المثلية، التي كما قلت تزيد الترابط الاجتماعي، أو العلاقات الغيرية من غير إنجاب، حيث يستطيع الشركاء تقديم رعاية لأطفال أقاربهم مما يزيد الرعاية لهؤلاء الأطفال، أو يستطيعون تبني أطفال لا يملكون رعاية خاصة (رعاية عامة في ملجئ أو غيره) مما يوفر لهم مزيد من الرعاية التي تعود بالفائدة لنجاحهم وبالتالي بقاء الجنس البشري. ولنضع ذلك بمنطق بسيط نقول:
1- الإنجاب والرعاية ضروريان لبقاء الجنس البشري.
2- يوجد إنجاب أكثر من الرعاية.
3- إذاً، نحتاج لزيادة الرعاية.
تلخيص:
لقد قمت بالرد على جميع الادعاءات المطروحة من المعترض، وعرضت الأخطاء والثغرات الموجودة في تصوره. وبينت الاعتراضات التي يجب عليه الرد عليها لكي نستطيع أخذ تصوره. ويحتاج في رده ارفاق مصادر علمية كما فعلت لينتج مقالاً أكاديمياً محترماً. أما مجرد إعادة طرح الفكرة، كما حدث سابقاً لن يرد على الإشكالات التي تعانيها هذه الفكرة، ولن أقتطع من وقتي لأرد على أمور رددت عليها. ولكي ألخص، سأضع ما يجب عليه أن يفعل لأسهل عليه الرد وسأضعها في رسم بياني يوضح ذلك. (يمكن فتح الصورة في صفحة أخرى لتظهر بالحجم الكامل).
وتذكر، لا تلبس كبوت!
أحب أن أختم بأول اعتراض ذكرته في المقال السابق، والذي لم أضعه في الرسم البياني لأن من يصعب عليه القراءة وجعلني أضع رسماً له حتى يفهم لا يرى مشكلة فيما سأذكره الآن، فالاعتراض ليس موجه له ولكن لمن يرى في حجته "شيء من العقل". إن المنطق الذي يتبعه المعترض يجعل بالضرورة أي جنس لا ينجب غير أخلاقي، مثله مثل المثلية؛ سواء مارست الجنس مع زوجك بواقي، استخدمت موانع حمل، عزل، زوجتك، أو زوجك، لا تنجب، أو لا ينجب، وأنت تعلم، أو تعلمين، بذلك قبل زواجك منها، أو منه، ولكنك تزوجت لأنك تحبها، أو تحبينه، أو غيرها من الممارسات الجنسية التي لا يوجد فيها إنجاب، كلها يراها المعترض أمور غير أخلاقية، وهي الضريبة الأولى التي يجب على من أراد استخدام هذا المنطق أن يدفعها. وبحسب المعترض ومنطقه، فإن أغلب سكان العالم غير أخلاقيين، فلا يكاد يوجد شخص في هذا العالم مارس الجنس في حياته ولم يمارسه يوماً من غير إنجاب بما في ذلك والدي المعترض نفسه. قد لا يقنع هذا الاعتراض المعترض، ولن يقنع "رجل" يعيش في عصور الظلام مثل تومس أكواينس وصالح الفوزان، ولكنه، وبكل تأكيد سيجعل هذه الحجة محل سخرية لأغلب سكان الأرض اليوم.
محبة،
Fleischman, Diana S., Daniel MT Fessler, and Argine Evelyn Cholakians. "Testing the affiliation hypothesis of homoerotic motivation in humans: The effects of progesterone and priming." Archives of sexual behavior (2014): 1-10.
"Just the Facts about Sexual Orientation and Youth: A Primer for Principals, Educators and School Personnel." Http://www.apa.org. The American Psychological Association. Web. 13 Feb. 2015.
LeVay, Simon. "A difference in hypothalamic structure between heterosexual and homosexual men." Science 253.5023 (1991): 1034-1037.
LeVay, Simon. Gay, Straight, and the Reason Why: The Science of Sexual Orientation. Oxford: Oxford UP, 2011. Print.
Peters, N. J. Conundrum : The Evolution of Homosexuality. Bloomington, Ind.: Authorhouse, 2006. Print.
Ryan, Christopher. Sex at Dawn: How We Mate, Why We Stray, and What It Means for Modern Relationships. New York, NY: Harper, 2011. 83-88. Print.
Shubin, Neil. Your Inner Fish: A Journey into the 3.5-billion-year History of the Human Body. New York: Pantheon, 2008. 28-58. Print.
شذوذ شيخ .. وقسيس - 3 خطوات للرد على حجة قانون الطبيعة ضد المثلية
"من هم رجال الدين لكي يفسروا الطبيعة؟ لقد أظهروا بأنفسهم، وبكل وضوح، عدم قدرتهم على فعل ذلك." - كريستوفور هيتشنز
يستيقظ الشيخ في وقت باكر جداً، مستغفراً وحامداً ربه وهو يردد "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور." ينهض من فراشه بهدوء، متجنباً إيقاظ زوجته الشابة، وهي آخر زوجاته الأربع، ليتجه مباشرة إلى دورة المياه بعد أن وضع نظارته في جيب ثوب نومه الأمامي. وبيده اليمنى يفتح الشيخ الماء، مستشعراً برودة المقبض المعدني المتأثر ببرودة الأجواء. وبالرغم من شدة البرد التي لم يتحملها المقبض الجامد، يترك ذلك الشيخ، الذي لم يعد شاباً، فراشه الدافئ باكراً ليقوم بوتره. فقد أصبح الأمر من طبيعته التي لا يستغني عنها.
يجفف الشيخ وجهه وساعديه، يخرج من دورة المياه، ويتجه لمكان صلاته. وهناك، يكبر مصلياً وتره. وبعد ذلك، يستلم قرآنه بيمينه ليقرأ منه حتى يدخل وقت صلاة الفجر. في مفهوم الشيخ، صلاة الوتر من طبيعته وفطرته، وفي مفهومه أيضاً أن المثلية أمر غير أخلاقي بسبب أنها أمر يخالف الطبيعة.
إن أهم حجة أخلاقية من الطبيعة ضد المثلية هي حجة القسيس تومس أكواينس. تعتمد هذه الحجة في تحديد ما هو طبيعي على النظر للغرض الطبيعي للشيء. وحسب تومس أكواينس فإن الغرض الطبيعي للشيء هو نهايته. مع مزيد من الادعاءات الأخرى الفرعية التي قد أناقشها لاحقاً لعدم أهميتها اليوم في الوسط الأكاديمي مثل ما يصفه أكواينس بـ "ما تعلمه الطبيعة لجميع الحيوانات" أو "كل ما ينحاز لأن يكون سائد وعام" وسأتوجه مباشرة للفكرة الأساسية، الغرض الطبيعي. ومما يراه أكواينس، استخدام أمر ما لغير غرضه الطبيعي عمل غير أخلاقي. ويرى أن أعظم خطيئة يمكن ارتكابها هي تلك التي تخالف قانون الطبيعة.
يدعي أكواينس أن الغرض الطبيعي من الجنس هو الإنجاب. وبما أن المثلية لا تؤدي هذا الغرض، فإنه يعتبر المثلية عملاً غير أخلاقي. وبما أنه يرى أن مخالفة الغرض الطبيعي هو أعظم خطيئة، فإنه يرى المثلية من ضمن هذه الخطايا، والتي تتفوق على الاغتصاب سواءً حسب أكواينس.
إن هذه الحجة تجعلنا نطرح عدة أسئلة، هل كل ما لا يؤدي إلى الإنجاب أمر غير أخلاقي؟ هل فعلاً الغرض الطبيعي من الجنس هو الإنجاب أو هل هو الفعل الوحيد على الأقل؟ هل يجب علينا القيام بالغرض الطبيعي لنكون أخلاقيين؟ سنجيب على هذه الأسئلة. وسنرى كيف أن هذه الحجة لا تستطيع وضع المثلية كعمل غير أخلاقي، بل وكيف أنها كنظرية غير قادرة على العمل لمعرفة ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.
1- هل كل ما لا يؤدي للإنجاب غير أخلاقي؟
إن هذا السؤال كفيل لوحده بإسقاط الحجة، وإظهار عدم قيمتها. على الأقل، لشخص لا يتبع الكنيسة الكاثوليكية كالأعمى. تقول الحجة بشكل منهجي:
1- أن الغرض الطبيعي من الجنس هو الإنجاب.
2- لا يوجد إنجاب في الممارسة الجنسية المثلية.
3- إذاً، الممارسة الجنسية المثلية غير أخلاقية لأنها لا تؤدي الغرض الطبيعي للجنس.
في واقع حياتنا اليومية، يوجد العديد من الممارسات الجنسية التي يقوم بها غالبنا من دون إنجاب، ولا يتحرج أحدنا من فعلها، ولا يعتبرها أحد فعل غير أخلاقي. في حال صدق ما أقوله، ووجدت ممارسات جنسية كهذه لا تعتبر غير أخلاقية، فإن السبب لرفض المثلية باطل؛ لأنه لو كان سليماً لرفضنا هذه الأمور معه.
من الأمور التي نقوم بها وتمنع الإنجاب، "الغرض الطبيعي من الجنس،" هو الواقي الذكري. كثيرون يستعملون الواقي الذكري في مختلف العلاقات سواء مثلية أم مغايرة لأسباب مختلفة، منها الوقاية من الأمراض، أو تحديد النسل ومنع الحمل. إن فعل كهذا لا يعتبره الفرد في وقتنا الحالي أمراً غير أخلاقياً. صحيح أن الأديان تمنع أو تبغض ذلك بشكل أو بآخر (كمحرم أو مكروه)، ولكن لا أحد يأخذها بجدية ويقوم الجميع تقريباً باستخدام الواقي من مختلف الميول والديانات والمذاهب. كما نرى، أياً كان سبب استخدام الواقي، سواء لأسباب صحية أو لتحديد النسل، فإنه يمنع "الغرض الطبيعي من الجنس" كالمثلية تماماً. فإن كان سبب اعتبارنا المثلية عملاً غير أخلاقي هو أنها تمنع الإنجاب، "الغرض الطبيعي من الجنس،" فلماذا، إذاً، لا يتم اعتبار استخدام الواقي عملاً غير أخلاقياً؟
العزل، وهو القذف خارج المرأة، يمنع الإنجاب، ومع ذلك، كثيرون يقومون به. يكره الإسلام العزل، ولكن لا أحد يأخذ ذلك بجدية أيضاً. فكما نرى هنا مجدداً، فإن العزل يمنع الإنجاب، مثله كمثل الممارسة المثلية، فلماذا يقبل المجتمع وافراده العزل ولا يعتبر عملاً غير أخلاقي كالمثلية؟
من الأمور الأخرى، موانع الحمل، فهي تمنع الإنجاب أيضاً، مثلها مثل الواقي، العزل، والمثلية الجنسية. لم اسمع يوماً أحداً يصف موانع الحمل بـ "الشذوذ،" ومع أنها تقوم بالضبط بنفس ما تقوم به المثلية (منع "الغرض الطبيعي من الجنس") فإن أحداً لم يقل بأن اخذ موانع الحمل عمل غير أخلاقي.
أمر آخر يحبه الكثير، الجنس الفموي. من الأمور الممتعة جداً في الممارسة الجنسية، والتي تثري الممارسة الجنسية بالكثير. ومع أن الجنس الفموي يمنع الإنجاب، فإني لم أسمع قط بأحد يدعي أن الجنس الفموي "شذوذ عن الطبيعة" وأنه عمل غير أخلاقي، بل أن أحد الشيوخ وضعها بشفافية وصراحة قائلاً، "أنا [...] أحب المص سبحان الله." لماذا يا ترى يرون المثلية غير أخلاقية إذاً؟
سأختم بفعل مهم جداً، فعل أحب، دائماً، دعوة الجميع لممارسته وعدم التحرج منه لفوائده الصحية وحاجتنا المستمرة له: العادة السرية. إن العادة السرية تساعد في تقليل احتمال الإصابة بسرطان البروستات عند الرجال. وتشبع رغبتهم الجنسية كذلك. ولأن مسألة الجنس المستمرة مكلفة بعض الشيء، فإن العادة السرية حل مناسب جداً لهذه المشكلة. كلنا نمارس العادة السرية، على الأقل من وقت لآخر. ومع أن العادة السرية "تمنع الغرض الطبيعي من الجنس" إلا أن أحداً لم يقل بأنها فعل غير أخلاقي. لماذا لا يعتبر الكثير ممن يحاربون المثلية بهذه الحجة الواقي، العزل، الجنس الفموي، والعادة السرية، ممارسات غير أخلاقية، وشذوذ عن الطبيعة، ولا يحاربها كما يحاربون المثلية؟ سأجيب على هذا السؤال في الفقرة الأخيرة من هذا المقال، ولكن الآن لنجمع ما قلنا.
في الحقيقة، يرى سانت أكواينس جميع الأفعال السابقة غير أخلاقية، بل ويراها أشد شراً من الاغتصاب، كما ذكرنا سابقاً. ولكن يندر أن نجد اليوم من يأخذ بذلك. إن كنت ممن يرون الأمور السابقة أفعالاً عادية، وكان سببك لمنع المثلية هو "عدم تأديتها للغرض الطبيعي من الجنس،" فإنك تناقض نفسك. فإما أن تعتبرها كلها أموراً غير أخلاقية، أو تقر بأن المثلية أمر عادي مثل باقي الأمور.
إن الأسطر السابقة كفيلة بالرد على من يرى الأمور السابقة أفعال عادية، وبذلك، تصبح المثلية أمر عادي لا مشكلة أخلاقية فيه. ولكن ماذا عمن سيتمسك برأيه وسيقول "كلها إذاً غير أخلاقية؟" ماذا عن تومس أكواينس نفسه؟ للإجابة على ذلك، فنحن بحاجة لسؤال آخر، هل فعلاً الغرض الطبيعي من الجنس هو الإنجاب؟
2- هل الغرض الطبيعي من الجنس هو الإنجاب؟
تعتمد الإجابة على هذا السؤال على تعريفنا للغرض الطبيعي. فهل الغرض الطبيعي هو الناتج النهائي للفعل أم السبب الأول له؟ هل هو الوظيفة البايولوجية أم المحرك البايولوجي؟ هل هو الوظيفة الاجتماعية أم المحرك الاجتماعي؟ هل هو مزيج من هذه الخيارات أم جميعها؟ كما نرى، ليست الخيارات بسيطة، والإجابة عليها ليست بالسهولة التي يتصورها من ينظر للجنس نظرة سطحية.
إن وضع جميع الاحتمالات واختبارها سيتطلب مني تأليف كتاباً كامل لذلك. قد يكون ذلك قريباً، ولكن هنا، ولطبيعة المقالات التي أكتبها، فإني سأضطر لإتباع طريقة أخرى مخالفة لما أفعله دائما من وضع الاحتمالات الممكنة ونقدها بغض النظر عن صحتها، وسأتجه مباشرة لما نعرفه عن الجنس.
بكل تأكيد، الإنجاب من أغراض الجنس، ولا أختلف مع أحد في ذلك. ولكن سؤالي، هل هو الغرض الوحيد؟ هل هو الغرض الدائم؟ بمعنى، هل كل عملية جنسية تكون لغرض الإنجاب؟ بالطبع لا. تمارس القردة العليا، ومن ضمنها البشر، الجنس لأسباب مختلفة وكثيرة. فأحياناً يكون للإنجاب، أحياناً يكون لتعزيز الروابط الاجتماعية، أحياناً يكون لإظهار والتعبير عن مشاعر القرب والتآلف، وأحياناً يكون مزيج من بعض ما سبق أو جميعها. كل ما علي فعله، لإسقاط هذه الحجة هو إظهار أحد أمرين: 1- بالإضافة للإنجاب، الأمور المذكورة سابقاً من أغراض الجنس. 2- ليست كل عملية جنسية غرضها الإنجاب.
لنحتكم في هذا الأمر، فإن علينا اعادته لعلم الأحياء، ونرى ما فائدة الجنس في النوع البشري. للمحيط والبيئة التي نعيش فيها تأثير كبير على سلوكياتنا، ويعمد العلماء في معرفة ما إذا كان أمر ما قديما في جيناتنا إلى النظر لأقاربنا من القردة العليا. إن اشتراكنا معهم بصفة معينة، يعني أن هذه الصفة قديمة في السلف المشترك معهم.
إن أقرب القردة العليا لنا هم التشامبانزي والبنوبو. فهم أقرب لنا من قربهم لأي قرد آخر قد تجده في حديقة الحيوان، بل أقرب من قرب الفيل الأفريقي للفيل الهندي. لدرجة أن بعض العلماء يرى تسمية نوعنا بـ (homo) كنوع مختلف عنهم غير مستندة على أسس علمية.
على كعس التشامبانزي، فإن البنوبو غير معروف كثيراً، ولا يعلم كثيرون أنهم من أقرب أقاربنا. يعرف عن البنوبو أنها مسالمة جداً، متعاونة، وتعيش كمجموعات. تتشابه معنا في سلوكيات كثيرة كالتعاون والإيثار، وحتى السلوكيات الجنسية. فهي تمارس الجنس بوضعيات مختلفة، تمارس التقبيل واللعب الجنسي بشكل مشابه للبشر. ويعرف عنها حبها الكبير للجنس. ما الصفات التي نستطيع أن نجدها فيهم لترينا شيء عن طبيعتنا الجنسية؟
في أغلب الثدييات، تحدث تغيرات في أعضاء الأنثى كتضخم حجمها واحمرارها كعلامة على الجاهزية لإخصاب؛ بالإضافة إلى أنهن لا يبدين أي اهتمام للجنس إلا في فترة الإخصاب. ومن بين جميع القردة العليا، لا يخالف ذلك إلا نوعين: أبناء عمومتنا البونوبو، ونحن البشر. فهذين النوعين هما الوحيدان اللذان يمارسان الجنس بأي وقت. ففي حين أن اغلب الثدييات لا تمارس الجنس إلا في فترة إمكانية الإنجاب، يقوم البشر بممارسة الجنس حتى وإن لم يكن "مهماً" كما يصفاه عالم النفس التطوري المختص بالجنس كريستفور ريان بسخرية.
إن كان الغرض الطبيعي للجنس هو الإنجاب فقط، فلماذا، وبعكس أغلب الثدييات، تطور إناث البشر بشكل يجعلهم يخفون الوقت المناسب للإنجاب؟ بل لماذا يبدون اهتماماً بالجنس حتى في تلك الأوقات التي لا يمكن فيها الإنجاب؟ يقول ريان في كتابه Sex at Dawn "بينما تبدو الممارسة الجنسية لدا الثدييات والقردة العليا الأخرى للإنجاب بشكل أساسي، إلا أن البونوبو والبشر ينتفعون من النشاطات الجنسية لأمور اجتماعية (خفض التوتر، الترابط، حل المشاكل، المتعة، ... إلخ)،" ليضيف لاحقاً، "في هذين النوعين، الجنس من غير إنجاب هو ’الطبيعي‘." ولأحكم إغلاق الباب قبل أن يفتح، أرد على من قد يقول أننا "نتمتع بالجنس لكي ننجب عكس من لم يتمتعوا به ولم ينجبوا وبالتالي انقرضوا" بأن هذا التفسير يتجاهل حقيقة أننا وعكس أغلب الثدييات والقردة العليا الأخرى، كما ذكرت، نمارس الجنس حتى في وقت الذي لا يمكن به الإنجاب. لماذا طورنا خاصية كهذه إن كانت المسألة للإنجاب فقط؟ هل للموضوع دخل بأننا الثدييات الأولى أجتماعياً متفوقين على الجميع، حتى أبناء عمومتنا البونوبو؟ أدع البحث لكم.
قد يعترض أحدهم بأن هذا "اتباع للشهوة الحيوانية." ومع أني لا أجد مشكلة في ذلك، إلا أنه في الحقيقة، وكما أشرنا، أغلب الحيوانات هي ما يمارس الجنس لغرض "الإنجاب فقط." فالذي يمارس الجنس للإنجاب هو الذي يتصرف "كالحيوان."
نحن لا نمارس الجنس للإنجاب إلا نادراً؛ في أغلب الأحيان، ليس الإنجاب غرضنا. وبعيداً عن كلام المختصين، ولنجعل المسألة ابسط، سأنهي هذه المسألة بطرح سؤال أجعل إجابته لكل شخص يقرأ ما أكتبه ليحدد بنفسه: حينما تمارس الجنس، هل تقوم به بغرض الإنجاب أولاً أم لأمور كالإظهار الترابط والمحبة أو المتعة؟ لا أنتظر إجابتك، أسأل نفسك، وأنظر لسلوكياتك، وسترى إن كان "الإنجاب" هو الغرض الطبيعي الأساسي والوحيد للجنس أم لا.
مما طرحنا، نرى أن المسألة لا تقتصر فقط على وجود أمور أخرى وراء الجنس غير الإنجاب، بل أن الإنجاب ليس أهمها حتى. وأن العملية الجنسية غالباً تكون لأغراض غير الإنجاب. ولكن لغرض الحجة سأفترض أني مخطأ. لنقل أن الإنجاب ليس فقط الغرض الأهم من الجنس، بل الغرض الوحيد الموجود في كل عملية جنسية. ما المشكلة إن خالفت الغرض الطبيعي؟
3- هل يجب علينا القيام بالغرض الطبيعي لنكون أخلاقيين؟
بعد أن استلم الشيخ مصحفه بيمينه، يأخذ الشيخ نظارته من جيبه الأمامي بيده اليسرى ويرتديها، مستندة على أنفه، يفتح الشيخ مصحفه ناظراً من خلالها باحثاً عن مكان وقوفه الأخير، يتذكر مردداً في ذهنه، "سورة الأعراف .. الآية الثمانون،" يجد الشيخ مكان توقفه، فيبدأ بالقراءة بترتيل وصوت عذب يوقظ زوجته التي تستمتع بخشوع وهدوء لقراءته، {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81)} حتى وصل إلى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} التي رددها عدة مرات وعيناه تدمعان حتى خر بعدها باكياً مستغفراً ربه من عظم ذنب قوم خالفوا "فطرتهم،" فهو لم يخالف فطرته أبداً، لم يفته قيام ليلاً، ولم يمنع الإنجاب أبداً! فيفكر متعجباً "الإنجاب هو الغرض الطبيعي والوحيد من الجنس، وما سواه مخالفة للطبيعة والفطرة. كيف لهم أن يخالفوا فطرتهم؟"
لا تحدد الأمور الأخلاقية بهذه البساطة، هي مسألة أعقد من هذه السطحية. لم يعي هذا الشيخ أنه، وحسب تعريفه للطبيعة، الذي هو تأدية الغرض الطبيعي، قد خالف الغرض الطبيعي لأنفه. فأنفه للشم والتنفس، وأسناده لنظارته على أنفه، لتي تساعده برؤية آية قوم لوط الذين يرى فعلهم مخالفاً للطبيعة، عمل، بذاته، مخالف للطبيعة. قد يعترض أحدهم بأنه يؤدي الغرض الطبيعي مع أمر آخر، ولم يمنعه. وبغض النظر عن أن استخدام الأشجار لصناعة الأوراق يمنع الغرض الطبيعي منها كلياً، إلا أني سأبقى في مثال الأنف واسأل، ماذا لو أنجبت مع ابقائي لعلاقتي المثلية؟ ماذا عن ثنائيي الميول؟ ماذا عن ممارسة الشيخ للجنس مع زوجته الرابعة في وقت غير وقت الإخصاب؟ لن يرى الشيخ عدم التزامه بطبيعة أنفه عملاً غير أخلاقي، ولن يرى أي أحد ذلك، عدى بعض ممن يريدون أن يجعلوا المثلية أمراً غير أخلاقياً مهما كان الثمن مثل أكواينس، الذي غاب عن باله أنه قسيس كاثوليكي لا يتزوج، لا يمارس الجنس، ولا ينجب.
"تظهر هذه الجماعات المصابة برهاب المثلية اهتمام أكبر لتقييد حقوق الإنسان لمثليي وثنائيي الميول بدلاً من تعزيز صحتهم." - روبيرت هوغ
لكني تلقيت بعده سؤال من صديقة عزيزة، ترسل لي الصفحة، فقد أرسلها السائل لها أيضاً، وتطلب مني الرد عليه بعد أن قامت هي مشكورة بالرد عليه بما لديها. الجميل في المسألة أن ما تطرحه الصفحة هو موضوع أحد ثلاثة مقالات كنت محتاراً أيهما أكتب أولاً لأنشره.
تطرح الصفحة، وهي هنا لمن أراد الاطلاع عليها، عدة ادعاءات لتصل فيها إلى أن المثلية خطرة صحياً، أخطر من الغيرية، وبسبب خطرها فهي غير أخلاقية، أو يجب تجنبها. لقد ناقشت مسبقاً مسألة الأخطار الصحية التي تربط في المثلية، سواء عن طريق تغريدات، أجوبة في ask.fm ، وكنقاط فرعية في بعض المقالات. ولكن سيكون نقدي لها هنا مخصص لها، على أمل أن ينتهي مسلسل استخدام هذه الحجة مراراً وتكراراً. لإيضاح ما سأقوم به مسبقاً وأسهل على القارئ التسلسل معي بالأفكار، فإني سأناقش الادعاءات المرفقة في الحجة بشكل خاص، وسنقوم أيضاً بنقد الحجة بشكل عام، معتمداً على عمل جون كورفينو في ذلك.
هل يصح استخدام بعض الدراسات كمصدر علمي؟
سأبدأ مع أغبى ادعاء وجدته في المقال، أدعاء بأن الحياة المثلية تؤدي لحياة أقصر. أرفق المقال دراسة لذلك، والتي سأتطرق إليها، وأدعى أنها الدراسة الوحيدة في هذا الموضوع. المضحك أني قد اطلعت مسبقاً على هذا الادعاء، وأعلم كيف كان مسار تطوره. ليست هذه الدراسة الوحيدة لذلك. بل بدأت المسألة مع دراسة مضحكة قام بها بول كامرين يقول فيها أن المثليين حياتهم أقصر بشكل كبير من الغيريين بمعدل 25 – 30 سنة. لقد كانت هذه الدراسة هي بداية هذا الادعاء الأحمق، ومن الواضح، أن من كتب تلك الصفحة لم ينشره وأدعى أن الدراسة التي ذكرها هي الوحيدة في هذا الموضوع ليجنب نفسه أحراج اقتباسه لهذه الدراسة الخرقاء. لكني سأذكرها هنا لنرى كيف بدأ هذا الادعاء. ما المشاكل في دراسة كامرين؟
في تلك الدراسة، استخدم كامرين إعلانات الوفيات في جرائد المثليين كمصدر لدراسته. لا يحتاج أحدهم دراسة أكاديمية في اجراء الإحصاءات ليضحك على أساس هذه الدراسة. الأخبار في الجرائد، التي تكتب عادة من أقارب المتوفى، ليست مصدراً كاف لإجراء أبحاث واحصاءات علمية. هذا فقط أول ما تعاني منه هذه الدراسة الكوميدية، ولا يزال هنالك الكثير.
لا يمكن لعينة مأخوذة من "أخبار وفيات في الجرائد في فترة الثمانينات" أن تتحدث عن المثليين بشكل عام لعدة أسباب، أولها بسبب (target demographic) لهذه الدراسة. ثانياً، بسبب أن المثليين الكبار في السن كانوا، وما زالوا، أكثر قرب لإخفاء ميولهم المثلية.
لا يوجد في هذه الدراسة (genuine control group). فأخبار وفيات المثليين يتم نشرها في الجرائد العامة مع أخبار وفيات الغيريين أيضاً، ومن دون ذكر شريك المتوفى أو ما يدل على ميوله، سيكون من الصعب تحديد ميول الشخص المتوفى!
أمر آخر تعاني منه هذه الدراسة، وهو أغرب ما تعاني منه، لم ترفق هذه الدراسة أعمار أي من الأحياء! لا نحتاج لقول ذلك، ولكن إن كنت ستتحدث عن معدل الأعمار فلا بد لك من أن تذكر أعمار الأحياء.
لن نستغرب إن علمنا أن كامرين، الذي قام بالدراسة، قد تم طرده من American Psychological Association لـ ‘انتهاكه مقدمة المبادئ الأخلاقية لعلماء النفس.‘ وقد تم ادانته لاحقاً من قبل Nebraska Psychological Association، و American Sociological Association ‘لإساءته في تقديم البحوث العلمية في موضوع الجنس.‘
لماذا أذكر هذه الدراسة مع أن الصفحة لم ترفقها؟ حقيقة أفعل ذلك لثلاثة أسباب، أولها، لكي أشير لبداية هذا الادعاء، فكريستفور ولف، بروفيسور في العلوم السياسية، بدأ هذا الادعاء معتمداً على هذه الدراسة، وحينما تم الرد عليه قام بالهرب للدراسة المرفقة في الصفحة، والتي سآتي لها بعد أن أفرغ من هذه. السبب الثاني هو أن هذا الدراسة مفيدة لمن يحاربون حقوق المثلية، حسبما يضنون، ولا يزال كثيرون يستخدمونها بغض النظر عن الحقائق الماثلة أمامهم عن الطريقة الغير علمية التي تم اجراء الدراسة بها، وعن مصداقية من قام بنشها ومكانته ورأي المجتمع العلمي بما يقوم به قبل حتى أن يقوم بنشرها.
السبب الثالث هو أن هذه البحوث مفيدة في شيء آخر أيضاً، كما يضعها مورتين فريش، عالم الأوبئة، في رد له على كامرين وابنه: ‘ورغم أن تقرير الكامرينين (يقصد بول كامرين وابنه كيرك) ليس له أي قيمة علمية موضوعية، ينبغي شكر المؤلفين (بول وابنه) على أن وفروا للأساتذة مثال مضحك لهراء العلوم الزائفة التي تحركها الأجندة، والذي من شأنه أن يضع درساً في بدائيات تصميم الأبحاث والاستدلال العلمي أكثر تسلية لطلاب علم الأوبئة في المستقبل.‘
لست هنا أهاجم كامرين شخصياً وأنطلق من ذلك على أن حجته باطلة، بل نقدت دراسته ذاتها أولاً، ومن ثم وضعت حقائق عنه بين المجتمع العلمي ليعلم الجميع حقيقة بعد هؤلاء عن العلم.
بعد أن تم الرد على كريستفور ولف لاستخدامه هذه الدراسة من قبل كورفينو، قام بالهرب إلى دراسة أخرى ليقول أن "أعمار الرجال المثليين أقل من المغايرين بمعدل 8 إلى 20 سنة،" وهي الدراسة المرفقة في الصفحة. قام بتلك الدراسة روبيرت هوغ، ونشرت بعنوان "نمذجة تأثير مرض فيروس نقص المناعة البشرية على الوفيات في الرجال مثليين وثنائيين الميول،" وكانت الدراسة على عينة من المثليين في فترة ما بين 1987 إلى 1992.
ليس سر بأن كثير من المثليين ماتوا بعمر مبكر بسبب HIV في الفترة المذكورة، لكن في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال، قام التعليم والتثقيف الجنسي والطب بتخفيض معدل الوفيات بسبب HIV بشكل كبير جداً، سواء بين الرجال الذين يمارسون الجنس مع رجال، أو في المجتمع كامل على حدٍ سواء.
في الحقيقة أنه لا يوجد أي نقد حول موضوعية تلك الدراسة علمياً، فهي دراسة محترمة وليست كدراسة كامرين، ولكن استخدام دراسة محددة كهذه في آثار الإيدز في مجموعة محددة لاستخلاص النتيجة الواسعة التي تقول بأن "أعمار المثليين أقل من المغايرين بـ 20 سنة" ليست أكثر من غباء مركب. فالدراسة لا تتحدث عن هذا أبداً، بل هي فقط توضح تأثير الإيدز على الأعمار في مجموعة محددة، وليس "الفرق بين أعمار المثليين والمغايرين."
هوغ نفسه، الذي قام بالبحث، في رسالة بـ 2001 للمجلة التي نشرت بحثه، قام بإدانة استخدام دراسته في ‘اقتراح أن المثليين والثنائيين جنسياً يعيشون حياة غير صحية لهم وللآخرين.‘ بل وأنه يختم بأن هذه النتيجة لا تنطبق حتى على العينة التي قام بدراستها.
إن استخدام دراسة مثل هذه للوصول لهذه النتيجة مثل استخدام دراسة بعنوان "نمذجة تأثير مرض فيروس نقص المناعة البشرية على الوفيات في الرجال المغايرين،" التي بطبيعة الحال ستكون أقل من غيرها، لأضع النتيجة "المغايرين يعيشون أقل بـ 20 سنة من المثليين!" أو كمن يقوم باستخدام دراسة آثار التدخين على عينة محددة بعنوان " نمذجة تأثير التدخين على الوفيات في الرجال" ويستخلص (حسب مزاجه)، "أعمار الرجال أقل من أعمار النساء."
خلاصة الموضوع في هذه المسألة أن الدراسة المذكورة ليست مقارنة، ولا تشير أصلاً لأي مقارنه، ولا يمكن حتى استخدامها في المقارنة فهي لمسألة مختلفة تماماً عن المقارنات. وهذا الحديث من الدراسة نفسها وما تقدمه، ومن حديث هوغ نفسه الذي قام بالدراسة. ولكن لغرض الحجة، لنفترض أن ما يدعونه صحيح، وأنه يوجد دراسة ما، في مكان ما تدعم ما يقولون. يبقى لدينا عدة أسئلة لطرحها.
هل ما يحدث بسبب المثلية؟
يجب أن نلاحظ أن الحجة المستخدمة لم تذكر ما إذا كان الخطر بسبب المثلية أم بسبب أمر آخر، ولحين نجد علاقة ضرورية بين الاثنين، أستطيع من هنا أن أضع ادعائي وإجابتي على هذا السؤال، ولنجعل المسألة أكثر سهولة سنركز على مسألة الإيدز وأجيب بـ (المثلية لا تقتل، الإيدز يفعل!).
قد يرد بأنه "إحصائياً، الجنس لذكر مع ذكر يجعلك أكثر عرضة لنقل الإيدز من الجنس مع الأنثى." سأعود لاحقاً لتحليل ونقد هذا الادعاء. ولكن الآن، لغرض الحجة، لنقل أن هذا الادعاء صحيح في جميع الحالات. لنأخذ إحصاء آخر، بالنسبة للنساء، الجنس المغاير يجعلهن أكثر عرضة لـ hiv من الجنس المثلي (مع نساء مثلهن). باستخدام نفس المنطق نصل إلى أن "الجنس المغاير يجب تجنبه!" من ناحية أخرى، فالإنجاب قد يكون خطير للنساء، بالتالي "يجب تجنب الجنس الغيري." الآن اسأل من يستخدم هذا المنطق، هل لا تزال تريد استخدام هذا المنطق؟
الآن لنعد لادعاء أن الإيدز بين الرجال المثليين يعرضك لاحتمال أكبر للإصابة بالإيدز. أحد الأسباب التي وضعتها الصفحة لانتشار الإيدز بين المثليين هي ميل المثليين لممارسة الجنس مع أكثر من شريك. في الحقيقة هذا الادعاء غير دقيق، الرجال عموماً، سواء مثليين أو مغايرين، يبحثون عن أكثر من شريك جنسي بشكل أكبر من النساء، لأسباب بيولوجية أو ثقافية. لذلك، العلاقات بين رجلين سيكون فيها معدل أكبر من تعدد الشركاء بطبيعة الحال، ليس لكونها مثلية بل لكونهم ذكور. لا دخل لهذا في كون الشخص مثلي، فهو يحدث للمغايرين أيضاً. ومع وجود دراسة تقول بأن العلاقات المثلية أقل استقراراً، يوجد دراسة أخرى ترجح العكس تماماً. وترجح السبب لكون العلاقة بينهم تكون أكثر انفتاحاً وصراحة بسبب مرورهم بتجربة انفتاح وصراحة كبيرة في مسألة العلاقات واحتياجاتهم العاطفية والجنسية باعترافهم بميولهم. ويقول فيها جون غوتمان على ضوء دراسته أنه "لدى المغايرين الكثير ليتعلموه من العلاقات بين المثليين والمثليات." والأرجح، أنه لا فرق بين الاثنتين في هذه المسألة، كما يقول غوتمان وآخرون "الشركاء المثليين والمثليات، مثل الشركاء الغيريين، يتعاملون مع أحداث الحياة اليومية الجميلة والسيئة للعلاقات القريبة." وحتى إن قلنا أنه بحث عن أكثر من شريك، فيبقى لموضوع إصابة أحدهم بالإيدز عوامل أخرى تحدده وليست تعدد الشركاء سنتطرق لها خلال المقال. [تحديث: أرى صحة النظرية القائلة بأن الأسباب ثقافية في جعل الرجل أكثر من المرأة في مسألة البحث عن أكثر من شريك، أما بايولوجياً، ارى أن الرجال والنساء من البشر يميلون للبحث عن أكثر من شريك، قد تكون بنسب مختلفة، ولكن كلهما يميل إلى ذلك. ولكن بما أن هذا ليس موضوع المقال فلن أخوض به.]
لقد قمت بنشر مقال سابقاً للرد على حلقتي خواطر التي تحدثت عن المثلية، وذكرت بعض العوامل لانتشار الإيدز بين المثليين، يمكن الاطلاع عليه هنا. أمر آخر، وهو الجنس الشرجي. قد يرد بأن "الجنس الشرجي يرفع احتمال انتقال الإيدز." ما يتجاهله من يدعي هذا هو أنه حتى في الجنس المغاير يوجد جنس شرجي، وفي حال وجود الفايروس في أحد الشريكين فإن الاحتمال متساوي. أي، في حال تساوي جميع العوامل بين العلاقة المثلية والمغايرة، فلا فرق بين الإثنين في احتمال انتقال الإيدز. بل أكثر من ذلك، فليس كل جنس مثلي جنس شرجي، بالإضافة إلى أنه، كما أوضحت في مقال دماغ الأرنب، في حال عدم وجود فايروس HIV في كلا الشريكين، فإن كلا الشريكين يستطيعان ممارسة الجنس الشرجي مع بعضهما كما يحلو لهما من دون القلق من انتقال فايروس HIV له.
سأعطي مزيداً من النقد لهذه النقطة لكثرة استخدامها. كشخص مثلي بحالة HIV- أجد هذه الحجة خرقاء. لأنه ببساطة احتمال أن يصدمني باص مدرسة أعلى بكثير من احتمال إصابتي بالإيدز من ممارستي للجنس مع شريكي الذي حالته HIV- أيضاً. بالتالي، وبأخذ الخيارين بين 1- البقاء في المنزل وممارسة الجنس مع شريكي أو 2- الخروج من المنزل لفعل أي أمر، فإنه من الأمن لي أن أبقى في المنزل وأمارس الجنس طوال اليوم. لكن بالرغم من ذلك، ومع الحض السيء، قد أموت بسبب ضربي لرأسي بلوح السرير بالخطأ أثناء ممارستي للجنس وسيصرخ من يقدم هذه الحجة، "المثلية خطرة وتقتل!" (ليست هذه مزحة، فهذا منطقهم المفتقر للتسلسل، سيقولون "المثلية تجعل احتمال الموت بسبب ضرب رأسك في لوح السرير أعلى.")
الآن لننهي بتلخيص ما قلنا في مسألة الإيدز بعبارة صغيرة سيكون من الصعب على كثير من العقول المغلقة أن تفهمها بالرغم من بساطتها وتكرارنا لها: "ما فيه فايروس، ما فيه إيدز." انتهى.
لقد ركزت على مسألة الإيدز لأجيب على سؤال "هل ما يحدث بسبب المثلية؟" لغرض التسهيل، ولكن يبقى لدينا مسائل أخرى عن الصحة العقلية. لقد تطرقت لهذا الموضوع أيضاً في مقال دماغ الأرنب. ولا أعلم حقيقة لماذا يعيد هؤلاء المجاهيل المتفرغين لإزعاج المثليين والمثليات بأسئلتهم نفس الحجج مراراً وتكراراً. لقد ذكرت في دماغ الأرنب ما يلي في شرح سبب ارتفاع معدلات الإكتئاب: "السبب وراءه هو أفعال الهوموفوبيك ضد طبيعة هؤلاء البشر وعدم تقدير مشاعرهم." السبب هو المحاربة وعدم التقبل التي يتعرض لها المثليين والمثلييات وثنائيي الميول، فحتى مع وجود تقبل أكثر مما كان في السابق، لا يزال، هنا في الولايات المتحدة على سبيل المثال، ضغط كبير على المثليين، فلا زالت كثير من المؤسسات تطرد الموظفين المثليين من دون أي حماية قانونية (بعض الولايات وليس كلها). هذه أحد الأمور التي تحصل هنا وليس كلها، وأكثر من ذلك يحصل في عالمنا العربي. إن من يستعمل هذه الحجة مثله كمثل الطفل المزعج في المرحلة الابتدائية الذي يضايق ويضرب طالب آخر وعندما يبكي الطالب يقول "ما ضربته بقوة، هو بزر صيوح عشان كذا بكى." فهم يتسببون بأذى نفسي للمثلين وحينما يكتئب المثلي يردون "ما آذيته، هو مثلي عشان كذا اكتأب." إن الأذى الذي يتعرض له المثليين وثنائيي الميول في صغرهم من تلقين بأن هذه تصرفات "شاذة" و "غير أخلاقية" و "ملعون فاعلها ومطرود من رحمة الله" والمحاجة لهذا الأمر، تسبب أذى لا يزول ببساطة. وحتى مع جلسات العلاج النفسي، تبقي هذه التصرفات الغير مسؤولة جروح تدوم لفترة طويلة. لذا، أطلب من كل من يناقش هذا الموضوع، إن كان إنساناً، أن يفكر جيداً قبل أن يناقشه. لأن الأذى الذي يحاول منعه قد يكون هو أحد الأسباب له.
لنقل أني مخطأ، وأن السبب وراء هذا الأذى ليس أمور أخرى منفصلة عن المثلية، بل المثلية ذاتها. حتى هنا ليست الحجة واضحة، فلا يزال هنالك سؤال ثالث يجب طرحه. لنسلم لهم لغرض الحجة: المثلية أكثر خطر من الغيرية، ماذا يتبع من ذلك؟
ماذا يتبع ذلك؟
لا يستعمل هؤلاء المنتقدون هذا المنطق في أكثر أمور حياتهم، ولو طرحه أحد عليهم لردوا "تستهبل أنت؟" يبدأ منطقهم بالتالي "إن كان هنالك نشاط أكثر خطورة من البدائل له. فبالتالي النشاط ذاته غير أخلاقي، أو يجب تجنبه." وبناء على هذا المنطق، ومع تجاوز جميع ما قلنا بأنه لا علاقة بين المثلية والخطر الذي يتحدثون عنه، يصبح الحديث: "الممارسة المثلية أكثر خطورة من الممارسة الغيرية. بالتالي، الممارسة المثلية غير أخلاقية، أو يجب تجنبها." لننظر إلى المنطق هنا لحالات أخرى تستخدم نفس المنطق، ولو كان هؤلاء الأشخاص عقلاء، لضحكوا على أنفسهم بعد قراءة هذه الأمثلة. لكن أكثرهم لن يفعلوا، بل سيبحثون عن حجة أخرى لكيلا يكونوا مخطئين، فأمثال هؤلاء لا يحبون الاعتراف بخطئهم. لنرى هذه الأمثلة الثلاثة:
1- قيادة السيارة أكثر خطورة من المشي. بالتالي، قيادة السيارة نشاط غير أخلاقي، أو يجب تجنبه.
2- العمل كبناء أخطر من العمل كأستاذ فلسفة. بالتالي، العمل كبناء نشاط غير أخلاقي، أو يجب تجنبه.
3- لعب كرة القدم أكثر خطورة من لعب الشطرنج. بالتالي، لعب كرة القدم غير أخلاقي، أو يجب تجنبه.
في جميع الحالات السابقة، يقدم كل نشاط خطر أكبر بكثير من النشاط البديل له، وبالرغم من ذلك، لا يعتبر أحد قيادة السيارة، العمل كبناء، أو لعب كرة القدم نشاطات غير أخلاقية أو يجب تجنبها. لماذا؟ يوجد إجابة بسيطة، لأنهم "assholes" لكن هذه الإجابة سطحية كثيراً، ولنجيب بإجابة أكثر عمق سنطرح السؤال الرابع.
هل الأخطار في الحالات السابقة تستحق؟
مسألة أن أمر ما فيه خطر لا تجعلنا نتجنبه ببساطة، لأنه يوجد فيه ما نريد مع إمكانية تجنب الخطر. فنحن نتجنب الخطر بنفس الفعل ولا نتجنب الفعل ذاته. ففي قيادة السيارة نتبع وسائل آمنة كحزام الأمان والقيادة بمسؤولية لتجنب الخطر، ولا نتجنب القيادة ككل، وفي حالة البناء، فإنه يرتدي الخوذة مع حذاء وقفازات خاصة، ويتبع تدريبات مخصصة على الأخطار التي قد يواجهها وكيفية التعامل معها. (ليست موجودة في السعودية ولكنها موجودة هنا في الولايات المتحدة وبقية الدول المحترمة.) وفي مثال لاعب كرة القدم، فهو يرتدي الواقيات، ويوجد حكم يحاول قدر المستطاع منع الضرر الذي قد يحصل. الجنس مثلها، فلن تمارس الجنس مع مصاب بـ HIV إلا بأخذ الاحتياطات.
لا نبحث عن إحصاءات عن الخطر المحدق بلاعبين كرة القدم لنجعلهم يلعبون الشطرنج، لكننا نفعلها مع المثلية، أليس هذا انتقاءً خاصاً؟ سيفهم كلامي على أنه مقارنة، لكنه ليس كذلك، إنما قول: كون فعل ما أخطر من بديل له لا يجعلنا نتركه. وحتى إن كانت مقارنة، فلا يزال الأمر في صالحي. أستطيع تخيل حياتي من دون أي رياضة (وهذه حياتي في الحقيقة)، ولكن لا أستطيع الاستغناء عن احتياجاتي العاطفية والجنسية. وهذا يجعل استخدام هذه الحجة في المثلية أسوء وأكثر غباء من استخدامها مع كرة القدم.
يجب أن يفهم هؤلاء، بأن خيار المثليين ليس بين المثلية والغيرية، إنما بين ممارسة مثلية خطرة وممارسة مثلية آمنة. يوجد الكثير من الخيارات هنا: كيف تمارس الجنس، متى تمارسه، ومع من تمارسه. كل هذه خيارات تقع على المثلي والمغاير على حد سواء، ولكليهما الخيار باختيار خيارات آمنة أو خيارات أكثر خطر. فإن أخترت أن تمارس الجنس مع شخص لا تعلم حالة HIV الخاصة به أو كانت حالته HIV+ بكيفية غير آمنة، فهذا خيارك سواء كنت مثلي أو مغاير. قم بلوم قيادتك الغير آمنة ولا تلم القيادة، وعلى نفس المبدأ، قم بلوم ممارستك الغير آمنة للجنس ولا تلم المثلية.
ختام:
لقد قمت بنقد الحجة على مستويين: الأول، هو توضيح بأنه حتى مع اعتماد المنطق المتبع فإن الحجة لا تصلح لأن الادعاءات المذكورة فيها عن الأخطار الصحية للمثلية غير صحيحة (في السؤال الأول)، أو لا علاقة لها بالمثلية ذاتها بل أمور أخرى (السؤال الثاني). والمستوى الثاني هو نقد المنطق المستخدم في الحجة وإيضاح بأنه منطق خاطئ ولا يمكن استخدامه (في السؤالين الثالث والرابع). على أمل أن يتوقف من كان له عقل عن استخدام هذه الحجج الباطلة من جميع النواحي. إن كان هذا سببك لرفض المثلية فاعتقد أن الحجة سقطت بشكل كاف، إن كنت ستبحث عن حجة أخرى، فأعلم أنك تحاول اثبات رأيك فقط ولا تبحث عن الحقيقة. أما إن كنت عاقلاً، فأتوقع أن تبحث في الرأي الآخر مستعداً لتغيير رأيك.
"مجرد روح مهدرة أخرى!" – من أغنية Inside The Fire لفرقة Desturped
لا يكفي أن أتحدث من قلب جهنم:
يقول برتنند راسل بأنك "قبل أن تتحدث عن الجنة، عليك أن تنظر بداخل النار." حينما أتحدث عن الانتحار فأنا لست طبيباً نفسيا. لكني شخص "نظر بداخل النار،" ولدي فكرة جيدة عما يوجد بداخلها.
لقد كنت على بعد خطوات من الانتحار في فترة ما من حياتي، لا، بل على بعد أقل من خطوة، إلا أني لم أجد ما كنت أخطط أن أشنق نفسي به. من حسن حظي أن ذهني كان مشغولاً بشكل كامل لتنفيذ تلك الخطة، فبقيت أبحث عنه بغضب ولم أجده، ولم أفكر حتى بفكرة بديلة، حتى نفذت قوتي فسقطت وأنا أبكي إلى أن غلبني النعاس، لأستيقظ لاحقاً وأعلم أن أحد أصدقاء شريكي بالمنزل قد أخذه.
كانت تلك حادثة واحدة فقط. إن الانتحار مسألة كان لي تجربة شخصية معها، وأعلم شوارعه وأزقته الضيقة، بشكل لا بأس به على الأقل، فهو أمر عانيت منه سابقاً، الذي يجعلني لا أتمنى وجود أي شخص في تلك الحالة. لكن حديثي هنا لا يغني عن الذهاب للمختص، بل أن أهم نصيحة أستطيع تقديمها هنا هي أنك إن كنت تجد في ذهنك أفكار للانتحار فلا تنتظر، الأمر ليس عادياً أبداً، وهذه ليست "مجرد أفكار." إن وجدت نفسك تفكر في الانتحار، فخذ خطوة وأذهب لمختص يساعدك فيما تمر به. يوجد الكثير لتقوم به، ويوجد الكثير ممن يتمنون مساعدتك.
عليك البقاء:
لا أعلم إن كان باستطاعتي حقاً اقناع أحدهم بذلك، لكن هي محاولة قد تصيب، أفضل من السكوت والتمني بعد فوات الأوان كما حصل سابقاً. فقد ذهب شخص، ولا أتمنى أن أرى ذهاب شخص آخر. سأحاول أن أكون بسيطاً قدر المستطاع وسأذكر ثلاثة حجج.
ليست الحجج هنا تخبرك ’لماذا عليك ألا تنتحر’ وإنما هي لتخبرك ’لماذا عليك البقاء.’ وإن بدت الأولى كالأخرى، إلا أن الثانية أكثر دقة، فأنا لا أعطيك تبعات للانتحار وأقول "عليك ألا تنتحر لتجنب هذه التبعات،" إنما أقول "هنا أمور تريد الحصول عليها، لذلك عليك البقاء لتحصل عليها."
المستقبل:
لا يعلم أحدنا ما يمكن أن يحصل له في المستقبل. ما الذي يجعلك تفكر في الانتحار؟ هل هي قوانين الحكومة؟ هل هي عادات وتقاليد عائلتك؟ هل هي معاناتك وألمك في حياتك؟ عدم نجاحك؟ هل هو عدم وجود هدف؟ أياً كان السبب، وأياً كان المسبب، لا تعلم ما يمكن أن يحصل في المستقبل. قد يضع أحدهم بعض التغييرات التي يتمنى أن تحصل، وينطلق مما لديه من حقائق ليرى إمكانية حدوثها، فإن كانت غير ممكنة الحدوث، لسبب أو لآخر، يقول "لا أمل لي."
إن المسألة أعقد من هذا، فإن ما يمكن أن يحصل ليس فقط ما يخطر على بالك، بل أمور أخرى لم ولن تخطر على بالك. فكما أن وصولنا اليوم لما نحن عليه من تقنية لم يكن يخطر على بالنا قبل ليس مئة أو ألف عام، بل عقد أو عقدين من الزمن، ها نحن اليوم نعيش في عالم كنا لن نصدق وجوده لو أخبرنا أحدهم عنه قبل خمسة عشر عاماً. لنضع الحجة بشكل منهجي فهي:
1- يغادر أحدهم الحياة بسبب سوء حياته.
2- مغادرة حياتك اليوم يعني عدم وجود حياتك المفترضة في المستقبل.
3- يمكن لحياتك في المستقبل أن تكون كما تتمناها.
4- إذاً، عليك البقاء الآن لتصل لما تتمناه في المستقبل.
عانيت من الاكتئاب، وحينما تسوء الأمور، كان ذهني يمتلئ بأفكار مختلفة، من هذه الأفكار الانتحار. في إحدى المرات، راودتني أفكار الانتحار، التي تبعها هذه الحجة للبقاء. فأنا لدي أهداف أريد الوصول إليها، بالإضافة إلى اعتقادي بإمكانية حصول هذه الأهداف في المستقبل، لذلك بقيت. بذكر ذلك نستطيع صياغة الحجة بشكل ابسط:
1- إن كان لديك أهداف تريد تحقيقها في المستقبل، فإن عليك البقاء لتحققها.
2- لديك أهداف للمستقبل.
3- إذاً، عليك البقاء لتحقيقها.
الصيغتين مختلفتين بعض الشيء، ولكنهما يصبان في نفس البحر. احتمالات المستقبل. إن استطاع أحدهم توقع المستقبل، على الأقل بشكل استقرائي، وكان توقعه أن ما سيحدث سيء أو أن هدفه لا يمكن تحقيقه على مدى الحياة المستقبلية كلها، فإن الحجتين تسقطان معاً.
اعتراض التنبؤ بالمستقبل:
في مرة كنت متمللاً ووحيداً، فبدأت أفكر بتلك الحجة. لا أذكر أني كنت أفكر بالانتحار وقتها، كل ما في الأمر أن وقتي الفارغ أصابني بالضجر، مما جعلني أعود لتلك الحجة وأحاول تحليلها. مما وصلت إليه كان اعتراضاً عليها. إن هذا الاعتراض يقوم على حجة استقرائية من الماضي:
1- كل ما حصل لي في الماضي حتى الآن سيء.
2- إذاً، غالباً أن ما سيحصل في المستقبل سيكون سيء.
أو للحجة الثانية:
1- لم يتحقق أي من أهدافي في الماضي وحتى الآن.
2- إذاً، غالباً أن أهدافي لن تتحقق في المستقبل.
الرد الأول:
إن هذا الاعتراض، إن صحت مقدمته المنطقية على الأقل، قوي جداً. فهو كمن يقول "الشمس في جميع الأيام السابقة أشرقت من جهة الشرق، إذاً غلباً ستشرق الشمس من الشرق غداً،" أو هكذا يبدو. لكني أشك حقيقة بصحة المقدمة المنطقية الأولى. إن ادعاء أن كل ما مر به أحدهم خلال حياته كان سيئاً هو ادعاء كبير جداً، إن الحياة فيها الجيد والسيء، بمجرد ادعاء أنها كلها كانت سيئة، فأنت افتراضياً، تقول بأنك لم تضحك أبداً. ولا حتى مرة وحدة. أعتقد أن هذا أمر مبالغ به كثيراً.
الرد الثاني:
ولكن لغرض الحجة سأفترض صحة المقدمة المنطقية الأولى. حتى في هذه الحالة، لا يمكن الاعتماد على هذا الاعتراض، على الأقل ليس كل شخص. فحينما تقول لي الشمس لم تشرق من الشرق في الماضي أنت تستند على بيانات كثيرة. فلديك تاريخ مسجل طويل يعود لأكثر من 4000 سنة لم يسجل فيه أن أشرقت الشمس من غير الشرق، فحينما تقول أنها لن تشرق من الشرق غداً، فإن لديك الكثير من البيانات التي تدعم كلامك. لكن لنقم بتجربة ذهنية بسيطة: لو كنت آدم، وبعد قصة "التفاحة،" أخرجك الله من الجنة وأنزلك إلى الأرض. كان الوقت في المنطقة التي هبطت عليها قبل الفجر بقليل، وبعد دقائق، بدأت ترى ضوءً جميلاً قادماً من جهة الشرق، بقيت تنظر منبهراً لأمرٍ لم تره من قبل، ولا يوجد لديك أي خبر عنه. الشمس تشرق من الشرق. هل تجربة واحدة لشروق الشمس من المشرق وعدم وجود أي تاريخ قبلك كفيلة بأن تقول بأن الشمس خلال العشرة آلاف سنة القادمة لن تشرق إلا من الشرق؟
تجربة ذهنية أخرى: لنقل أنك تقوم ببحث عن مسببات سرطان الثدي، لديك حالة واحدة لفتاة تحب متابعة مجموعة قنوات mbc والتلفاز بشكل عام. ومن هذه الحالة الواحدة فقط استنتجت أن متابعة التلفاز عموماً، وقنوات mbc خصوصاً سبب من أسباب سرطان الثدي. هل هذا سبب كافٍ لذلك؟ أغلب من يقرئ كلامي لا يجيد الكثير عن اجراء الأبحاث والإحصاء، ولكني متأكد أن أحدهم لن يصدق هذا الطبيب لضعف عينته. لماذا لا يكون سبب آخر؟ هل يوجد حالات أخرى حدث معها نفس ما حصل لهذه الفتاة لنقوم بوضع علاقة بين متابعة التلفاز وسرطان الثدي لنعممه من فتاة واحدة إلى 3.5 مليار فتاة موجودة في العالم اليوم؟
من نفس المبدأ أطرح سؤالاً: مقارنةً بما تتوقعه لحياتك المستقبلية، ماذا تمثل عينتك الماضية؟ إن متوسط الأعمار للذكور والإناث في أيامنا هذه يتراوح ما بين 70 إلى 80 عاماً. فحينما يكون سبب الإقدام على الانتحار هو أن كل ما حصل في الماضي سيء أو لم تتحقق فيه الأهداف، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو ’هل لدي ما يكفي لأدعي هذا؟’
سأتكلم عن نفسي، أبلغ من العمر الآن 22 سنة. في المعدل، حياتي قد تستمر إلى، لن أقول 80، 70 سنة. حينما أقول أن كل ما حصل لي في الماضي كان سيئاً، فبالتالي ما سيحصل لي في المستقبل سيكون سيئاً كذلك، يجعلني أبدو كآدم في مثالنا الأول حينما قال أن الشمس ستشرق من الشرق في العشرة آلاف سنة القادمة فقط لأنها فعلت ذلك في أول يوم، ومثل الباحث والطبيب الذي جعل سبب سرطان الثدي هو مشاهدة التلفاز فقط بسبب أن حالة واحدة لديه "تشاهد التلفاز كثيراً!" 20 سنة لا ترتقي لأن تكون النصف، بل ليست حتى الثلث من معدل ما قد أعيشه.
أعلم جيداً أن آدم ليس بحاجة الكثير من الأيام ليحكم، وآن الطبيب ليس بحاجة أن يجرب على نصف نساء الأرض ليحكم أيضاً، لكني أطلب بدليل كاف في كلا الحالتين. وبسبب أن الحياة البشرية أمر معقد يدخل به الكثير من العوامل والمتغيرات والمراحل العمرية المختلفة التي يتغير فيها مزاج الشخص وفكره من مرحلة إلى أخرى، فأنا ادعي أن 20 سنة غير كافية للحكم على الـ 60 سنة القادمة.
قد يرد أحدهم، ماذا عن الكبار في السن؟ شخص في الستينات من عمره؟ فهنا لدينا شخص مر بفترات عمرية مختلفة، وتجارب كثيرة في الحياة، ويحق له أن يصل إلى نتيجة أن ما سيحصل له طوال فترة حياته المستقبلية سيكون سيئاً لأن الماضي كان كذلك وحتى الآن. وهذا ما سينقلنا للحجة الثانية.
الحب والاهتمام:
في هذه الحجة قد يتضح الفرق بين طلب عدم الانتحار وطلب البقاء. هو أيضاً موجود في الحجة السابقة، فنحن مثلاً لا نقول "ستخسر ما تريد في المستقبل إن انتحرت، لذا يجب ألا تنتحر" بل نقول "قد يوجد ما تريد في المستقبل، لذا عليك البقاء للحصول عليه." في حال الشخص الكبير في السن الذي يأخذ بالاعتراض، فإننا نعطيه حجة أخرى تقول يوجد اشخاص نحبهم ونتمنى لهم السعادة، من أهل، أبناء، أصدقاء. يوجد في حياة الكثير منا أناس نهتم لهم، ونريد سعادتهم، لأننا نحبهم. هؤلاء من نحب ويحبنا، لماذا لا نبقى ونسعدهم؟ لا تقتصر هذه الحجة على الكبير في السن فقط، ولكني ذكرت ذلك امتداداً للاعتراض في الحجة السابقة.
1- يوجد من نحب ونريد سعادتهم.
2- بقاءنا يزيد من سعادتهم.
3- إذا، يجب أن نبقى لنسعدهم.
الاعتراض الأول:
يوجد اعتراض على المقدمة المنطقية الثانية، هل معاناة وجودنا أكبر قيمة من السعادة التي نعطيها لهم بوجودنا؟ ببقائك ستسعدهم، مع احتمالية تغير واقعك في المستقبل. صحيح أن الاحتمال أصبح ضعيفاً طبقاً للحجة الاستقرائية، ولكنه موجود، ومع إضافة الرغبة بإسعاد من نحب، فإن لدينا سبب قوي ووجيه للبقاء.
الاعتراض الثاني:
هذا اعتراض آخر، وهو يستهدف المقدمة المنطقية الأولى، في هذا الاعتراض، يقول المعترض، بأن المقدمة المنطقية الأولى ليست صحيحة له. فلا يوجد من يحب ويريد اسعاده. قد يكون لذلك أسباب كثيرة، منها أننا لا نجد الاهتمام ممن نهتم لهم. وهذا من الأسباب التي تجعلنا لا نكترث بمن "يدعون" أنهم يهتمون بنا ويحبونا.
إن هذا الاعتراض منطقي، ولكن إن كان سببك لعدم الاهتمام هو عدم وجود من يهتم، فهل أنت متأكد من ذلك؟ لا أعرف كثيرين ممن سيقرؤون هذا المقال، لكني أكتبه على أية حال، لأني، حتى وإن كنت لا أعرفهم، أهتم بمعاناة أي شخص. حينما اسمع بخبر انتحار شخص اعرفه شخصياً، فإن ردة فعلي واهتمامي لا تزيد عنها حينما اسمع بخبر انتحار شخص لا أعرفه. أنا وكثيرون نهتم. وإن كنت تفكر في الانتحار، جرب أن تتحدث معنا، وسترى أننا هنا لدعمك، وللوقف بجانبك، وأننا نهتم حقاً بما تمر به.
خلاصة القول هي أنه يوجد الكثيرين ممن يهتمون بك وبسعادتك، فأنت انسان مثلنا، ولا نتمنى لأي انسان على هذه الأرض، سواء عرفناه أم لم نعرفه أن يعاني. بل وأن معاناته تزعجنا، ونحاول التقليل منها قدر الإمكان، لا لشيء، إلا لأننا نرى أن الحياة تستحق أن تحيا بسعادة. وأن أي فرد يستحق أن يجد السعادة في حياته. وهو أقصى ما أسعى إليه أنا وكثيرون غيري، أن نكون سعداء جميعاً كعائلة إنسانية واحدة يحترم كل منا الآخر في ظل الحرية والمساواة بيننا. قد يرد "ولكني لا أعرف من يهتم بي،" وحق له أن يرد هذا الرد. ولكني أفترض الآن أنك تقرأ هذا المقال، وقد علمت أني أهتم. لك أن تأتي ونتحدث سوياً عما تمر به.
قد لا يكون هذا سبب كافٍ لكثيرين. لكن البعض لديهم أبناء، أبناء هم من قاموا بإنجابهم. وهم المسؤولون عنهم وعن سعادتهم. أجد مسألة الإنجاب مسألة غير أخلاقية، وليس الموضوع هنا الحديث عن ذلك. ولكن إن كنت قد أن أنجبت، فإنها مهمة أخلاقية أن تسعى لإسعاد أبناءك. إلحاق الضرر بهم ليس غاية لك، وهي، إن كانت موجودة، غاية غير أخلاقية. لا أضع اللوم على أحد أخلاقياً، فلكل منا نقطته الأخلاقية العمياء. فكيف لأحدهم أن يتجنب فعل غير أخلاقي إن لم يعلم أنه فعل غير أخلاقي؟ بل كيف يلام على ذلك إن كان لا يعلم أنه فعل غير أخلاقي؟
لا نستطيع لوم أحد. ولست هنا لأضع اللوم على أحد، ولا أذكر هذه النقطة لذلك. ولكني أذكرها لأطلب من كل شخص يفكر في الانتحار أن يضعها في الحسبان ويفكر فيها قليلاً، هل لبقائك أو انتحارك تبعات أخلاقية؟ خذ هذا السؤال في الحسبان وتحدث به مع غيرك، فلا يعلم أحدنا ما هي بقعته الأخلاقية العمياء.
المجهود:
كما ذكرت، فإن البعض لديهم أبناء، ولكن ليس الجميع. ماذا عمن ليس لديهم أبناء؟ إن لم يكن لديك أبناء، ولم يقنعك أني أنا وكثيرين غيري نهتم بك وبما تمر به، فإني أطلب منك أن تنظر إلى الخسائر والمجهود الذي بذلته لتصل إلى أهدافك حتى الآن. بوصولك إلى هنا، وعدم اقتناعك بما قلت، فغالباً أنك كبير بسن، لا يوجد من تهتم لهم، ولا تظن أنه يوجد من يهتم بك (الذي يخالف حقيقة أنك تقرأ مقال لشخص لا تعرفه يطلب منك البقاء، فبطبيعة الحال هو يهتم بك. ولكن لا بأس).
دعك مني، دعك ممن لا يهتمون بك. هل تريد أن تكون مثلهم ولا تهتم بنفسك؟ لقد قمت بمجهود كبير حتى وصلت إلى هنا، وعانيت الكثير، فماذا ستخسر أكثر مما خسرت؟ هي مراهنة. لقد خسرت الكثير حتى وصلت إلى هنا. ولن تخسر أكثر مما خسرت إن بقيت. وفوق ذلك، يمكن أن تكسب! لا أعترض أن الاحتمال ضعيف تبعاً للحجة الاستقرائية، ولكن من مبدأ المراهنة، فأنت قد خسرت الكثير، وليس بيدك الكثير عدى أن تكمل المراهنة. وقد تكسب! لذلك، فإن الرهان على البقاء خسائره أقل، بل وقد يجلب مكسب وتتحقق أهدافك أخيراً.
من ناحية أخرى، قد استمرت جيناتك بالبقاء لسنوات طويلة. إن حقيقة وجودك اليوم تعني أن جيناتك أنت بالذات صارعت للبقاء لما يعود لأكثر من ملياري سنة، وقد نجحت في فعل ذلك بامتياز، وتغلبت على جميع صعوبات الطبيعة والحياة القاسية، لتجعلك اليوم موجوداً.
إن الكائنات الموجودة اليوم هي أحق الكائنات في البقاء. لأنها تميزت عن غيرها بصفات جعلت حتى الطبيعة نفسها غير قادرة على غلبها والإطاحة بها. فلماذا أجعل لحظة تنهي هذا؟ لا أعلم ما يفكر به غيري، ولكن، عن نفسي، لن أجعل الطبيعة تغلبني. وسأعيش كما أريد سواء شاءت قسوة الحياة والطبيعة أو لم تشئ.
إن ما قلته حتى الآن يفترض مسبقاً وجود غاية تحقق السعادة لمن يقرأه، قيمة لحياته وهدف يريد تحقيقه تجلب له السعادة. ولكن ماذا إن لم يكن لأحدنا هدف؟ إن هذا يجعلنا ننتقل من الحجج للبقاء إلى مسألة أهم، مسألة من دونها لا يعني كل ما ذكرناه أي شيء. هدفنا من الحياة، ما الهدف من بقائي؟ لماذا أبقى حياً مع كل ما أعانيه؟ حتى وإن كان لي هدف، كيف لي أن أحققه؟
هل تريد الانتحار؟
في الحقيقة، إن سبب الانتحار المباشر هو الحزن، ولا دخل له بوجود هدف من عدمه، الرغبة بالسعادة موجود في كل شخص، ومهما كان هدفك فهو بالأخير يصب لشيء واحد، سعادتك. يقول أليكس روزينبرغ:
إن الذين يبقون في السرير طوال اليوم ويقومون بتصرفات إيذاء-الذات و ينتحرون لا يفعلون ذلك لعدم وجود هدف في حياتهم أو حتى لأنهم يعتقدون أن حياتهم تفتقر للمعنى. بل ينتحرون بسبب رد الدوائر العصبية في أدمغتهم على الآلام "المستعصية،" مشاعر الاكتئاب، وأي من الأحداث المؤسفة التي يمكن أن يواجهها الإنسان. غالباً، تقوم الدوائر العصبية بالرد بإنتاج إشارات انتحار أثناء وقبل قتل النفس.
يستخدم روزينبرغ هذه العبارة ليحاج أن الهدف من الحياة غير ضروري، أتفق معه في العبارة ولكن ليس الغرض منها. فـ "معاناتك من ألم" تعني أنك "لست سعيداً،" والهدف الذي نسعى له تكمن وراءه السعادة. إينما وجدها الشخص فهذا هو المطلب. لذا، فإن وجود هدف مهم لأنه يصب في سعادتنا، وسعادتنا مهمة لأنها تبعدنا عن الألم والحزن والاكتئاب التي هي أسباب "إنتاج اشارات الانتحار من الدوائر العصبية."
إن كان أحدهم يريد الانتحار فهو بشكل أو بآخر يجد حياته متعبة وسيئة، أو يظن أنه لا يمكن أن تكون إلا متعبة وسيئة في المستقبل. وإن كان لا يريد الانتحار فهو بشكل أو بآخر يجد حياته مريحة وممتعة، أو يطمح أن تكون حياته مريحة وممتعة في المستقبل.
لم أجد حتى الآن أي خيار خارج هذين الخيارين، فحتى في حالة البقاء لمن نحب، على سبيل المثال، فتلك غاية من بقائنا تجلب لنا السعادة. حتى بعض أشد العدميين يقول بأن بقاءه "مجرد فضول،" أو مثل روزينبرغ "لعدم وجود ألم أو حزن،" وحتى مع عدميتهم هذه فإن فضول الأول لإرضاء شيء في نفسه يجلب له السعادة. كذلك الحال مع روزينبرغ. لا يترك أحدهم حياته إلا وقد فقد أي إشارة للسعادة، أو لا يجد سعادة كافية في حياته، أو على الأقل، لا يجد سبيل لتحقيق ذلك في المستقبل. (قد أبدو مختلفاً مع روزينبرغ، ولكن ليس تماماً، وليس الغرض هنا إيضاح ذلك، ربما في مقالٍ آخر.)
إن العدمية ليست إلا شيء خاص بالكون. فحسب ما نرى لا يوجد أي هدف من الكون، ولا يبدو أبداً، لمن نظر بحرص، أن الكون يهتم بنا. هل هذا يعني أنه لا غاية لنا أيضاً؟ هل عدمية الكون تعني عدميتنا بالضرورة؟ فبالأخير، كلنا سنذهب للعدم، فلماذا نبقى؟
إن حقيقة أن كل شيء يتجه للعدم، لا تعني أبداً أننا لسنا موجودين اليوم. قد يرد بأن الغايات من الأمور هي نهاياتها، ولكن حتى هناك، لا أجد أي شيء يجعل من الضروري أن أكون بلا هدف اليوم. فحقيقة أن كل شيء متجه للعدم في المستقبل البعيد بعد عدد من مليارات السنين، لا تعني أني لست موجود اليوم. وحتى يصبح كل شيء عدم، فأنا موجود الآن. يبقى السؤال، كيف نحقق ما نريده في المستقبل؟ وإن لم يكن لدينا ما نريده أصلاً، أين نجد هدفاً؟
كن حياً:
لا يوجد للحياة هدف مسبق، ولا يجب أن يوجد هدف مسبق على الجميع اتباعه. وجود هدف مسبق يعني ببساطة عدم وجود هدف لك، وأنت تتبع هدف غيرك. عدى ذلك، فهدفك هو تحقيق هدف غيرك.
ما هو إذاً هدفي في الحياة؟ أهدافي كثيرة، وأنا من يحددها. إن في قراءة التاريخ، تجارب الآخرين، والفلسفة، مصادر جيدة لرؤية تجارب وأفكار الآخرين للوصول لما نريده من حياتنا، وكيف نحققه. لسنا هنا نتبع أحداً، ولا يجب علينا ذلك، بل علينا أن نجد ما يتماشى معنا، لنصل للحياة التي تستحق أن تحيا.
إن أفضل عبارة لإيضاح الهدف من الحياة هي عبارة أقتبسها من غريلينغ، يقول غريلينغ: "حينما يسأل ’ما هو معنى من الحياة؟’ فإن الإجابة الصحيحة هي ’ما تصنعه منها’." فلكل منا هدفه في الحياة، معناه الخاص به. ولإيجاد هذا المعنى، فإنه يوجد حيلة صغيرة يضعها ألبيرت كامو، يطرح على الشخص أن يجيب على سؤال "هل تريد الانتحار؟" في إجابته بـ "لا" فإن السؤال التالي هو "لماذا؟" إن الإجابة على السؤال الثاني هي هدف هذا الشخص من الحياة.
حقيقة أنك تقرأ هذا، فغالباً اجابتك هي "لا،" حتى وإن كانت هذه الأفكار تراودك، فإني سأسأل "لماذا أنت حي إلى الآن؟" أو "لماذا تقرأ المقال وتبحث عن حل لكيلا تنتحر؟" قراءتك لهذا المقال هي إجابة مسبقة على هذا السؤال بـ "لا،" كل ما عليك فعله، هو أن تبحث عن هذه الأسباب في داخلك، ومن ثم تطبيقها ومحاولة الوصول لها.
أياً كان سببك، السعادة ذاتها والاستمتاع بالحياة بأي طريق كان، أو الوصول لها بطريق محدد كالوجود مع من تحب، كل تلك أهداف. مهما بدى هدفك سخيفاً للآخرين أو عديم قيمة، فهذا لا يهم، هي حياتك، وأنت من يشكل غاياتها كما يريد. نعيد، وجودك هنا يعني أنك لا تريد الانتحار، ابحث عن سبب ذلك.
لا نغفل أن المؤثرات على حياة أحدنا كثيرة. من الحوادث الخارجة عن ارادتنا، الحظ، وتأثير الآخرين، حدود قدراتنا وامكانيتنا. بأخذ بعين الاعتبار أن أغلب المؤثرات على حياة الفرد هي أمور خارجة عن سيطرته، خارجة عن أهدافه وطموحاته، فكيف نستطيع، إذاً، الوصول لأهدافنا والعيش في حياة سعيدة تستحق أن تحيا؟
لن أكون مخادع وكأصحاب ما يدعى بـ "قانون الجذب،" على سبيل المثال، وأقول بأنك أنت من يحدد كل شيء بأفكارك حتى المؤثرات الخارجية. ولن أمني النفس بوجود كيان كلي القدرة يهتم بي شخصياً ويستجيب دعواتي. فكما ذكرت، اعتقد أن التأثير الأكبر في حياتنا لا يأتي منا، فمجتمعنا، وثقفتنا، لها التأثير الأكبر على حياتنا. ما العمل إذاً؟ لا يجب على أحدنا، ليصل لما يريد، أن ينتظر المؤثرات الخارجية كثيراً. المؤثر الذي يستطيع أحدنا التحكم به وتغيره بشكل كبير هو نحن وأفعالنا تجاه حياتنا. إن كان هنالك ما يمكن تغييره فهو أثرنا وفعلنا. هذا أول ما يجب على أحدنا تغييره لنصل لما نريد. علينا السعي لها بانفسنا، البحث عنها بذواتنا، من دون الرجوع إلى الآخرين وانتظارهم. نريد اصلاحاً لمجتمعاتنا؟ إذاً، لنقم به بانفسنا، ولا ننتظر الآخرين أن يقوموا به. نريد مالاً؟ إذاً، لنعمل على الوصول له بأنفسنا ولا ننتظر الآخرين. أياً كان ما نريده، نحن من يجب أن يسعى له، لا الآخرين. لا ننتظر من الآخرين أن يأتوا به. أبق في ذهنك أن أغلب المؤثرات قد تكون ضدك، لذلك، قم بذلك بنفسك.
لكن ما العمل إن لم يتحقق؟ الحياة رحلة يتمتع بها كما قلت، ولو قلت بأن هدفي هو الحصول على المال، فهل انتحر بعد تحقيق هذا الهدف؟ لا، علي الاستمتاع في رحلتي لتحقيق هذا الهدف، أعمل ما بوسعي للوصول له، واستمتع بالرحلة. إن حققت هذا الهدف، فاستمتع به، واستمر بالحصول على المزيد. لم أحصل عليه؟ فأنا مستمتع بالرحلة لذلك الهدف، وعلي الاستمرار في هذه المتعة. أقرب مثال لذلك هو ألعاب الفيديو، فأنت تريد الوصول لنهايتها، ولكن إلى أن تصل، فأنت تستمتع باللعب حتى تصل إلى نهايتها، وإن انتهيت، تبحث عن لعبة أخرى وتعيد العملية. وفي بعض الأحيان، لا تحتاج للعبة جديدة، فكثير من الألعاب لا نهاية لها، تجمع المزيد والمزيد من النقاط بشكل لا نهاية له. هي فقط رحلة يستمتع بها واثناءها، كذلك الحياة.
قد يرى أحدهم أن المؤثرات الخارجية دائماً ضده، وأنها لا تضع له الخيار لتحقيق ما يريد ليصل للحياة السعيدة. لقد مررت بذلك سابقاً، والأمر الذي يبقيني هو وجود أمور في حياتي تسعدني، شريكي ومن أحب، الأعمال التي أقوم بها، رغبتي بتحقيق أهدافي في المستقبل. كل هذه الأمور تبقيني مستمتع برحلتي للحصول على هدفي. أقوم بما يجب علي القيام به، إن حصلت عليه فهذا مطلبي، وإن عملت العوامل الخارجية ضدي، فليس في يدي تغييرها، وليس ذنبي أنها حصلت لأقوم بالاستغناء عما لدي. سأستمر بالقيام بما يجب علي القيام به، فأنا مستمتع باللحظة وبالرحلة. ولن أدع هذه الأمور السلبية تعكر مزاجي وتعطل من سعيي لما أريد، وتأخذ سعادتي باللحظة. قد يسميه البعض تبلد، أو عدم اكتراث؛ ولكن هذه التسميات فارغة، فأنا راضٍ عما قمت به، وأعلم أني قمت بما يجب علي القيام به، ليس الذنب ذنبي، فقد حاولت. لماذا علي لوم نفسي وجلد ذاتي بالحزن وإيقاف رحلتي والانتحر بسبب ما لم أقم به بنفسي (المؤثرات الخارجية)؟ من غير المنطقي أن يعاقب أحدهم على جريمة لم يرتكبها، فلماذا نعاقب أنفسنا، ونجلد ذواتنا بمزيد من الحزن، بسبب ما يرتكبه الآخرون؟ أجمل ما سمعته في ذلك هو مقطع لأغنية لبوبي ماكفلورين يقول فيه "في كل حياة عليك أن توقع بعض المشاكل، لكن حينما تقلق بشأنها فأنت تضاعفها."
1- بما أنه لا ذنب لنا بالمؤثرات الخارجة عنا.
2- إذا، لا معنى من أن نؤذي أنفسنا بما لا ذنب لنا به.
العدالة الكونية:
يبقى السؤال، "وما ذنبي لكي يحصل لي هذا؟" حدثت لي بعض الأمور السيئة، وكنت اقرأ كتاب لكريستفور هيتشنز في تلك الأيام، وهو آخر ما نشر له، مجموعة من المقالات التي قام بكتابتها في آخر حياته. لقد كان سؤال "لما أنا؟" في ذهني خلال تلك الفترة، حتى قرأت عبارة هيتشنز متحدثاً عن اصابته بالسرطان: "للسؤال الغبي ’لما أنا؟’ بالكاد أزعج الكون نفسه برد الجواب: لما لا؟" (نعم، قراءتي له في ذلك الوقت كانت مجرد صدفة.)
إن سؤالنا هذا يجعلنا ننتظر "عدالة كونية،" أو "هدف كوني." وهذه أمور لا وجود لها كما قلنا. نحن نضع أهدافنا، ومن يظن بوجودها أو يتأمله متوهم. الشخص الناضج يعي جيداً أنه لا وجود لها. علينا تقبل حقيقة الكون، الكون لا يكترث بوجودنا، لا يوجد عدالة كونية، لا يجب علينا انتظرها. يجب أن نقبل هذه الحقيقة، وأن نعمل على وضع العدالة التي نطمح لها بأنفسنا.
كلكم قتلة:
"داعش لا تمثل الإسلام،" كلنا سمعنا ذلك. هل داعش هي الوحيدة التي تمارس الإقصاء والقتل؟ لا أعتقد ذلك. حتى من يقولون تلك العبارة، كثير منهم وليس كلهم، لا يختلفون عن داعش كثيراً. كلهم يقتل باسم الدين بطرق مختلفة، داعش ترجم وتنحر المختلفين، وهو يجبر المختلف على كره الحياة ومن ثم الانتحار.
لا يخفى على أحد ما يواجهه النساء، اللادينيين، مثليي وثنائيي الميول، المتحولين، وغيرهم ممن يضطهد ويتم اقصاءه من المجتمع، ويعتبر مجرد أداة أو زينة للحياة أو متعة فيها أو عورة أو نصف انسان، كائن مريض، أو سرطان في المجتمع، فقط لأنه من الجنس "الخطأ،" الميول "الخطأ،" أو خالف ما يرونه صائباً بطريقة أو بأخرى. كثيرون تم إلحاق ضرر نفسي بالغ بهم، حتى وصلوا للمرحلة التي لا عودة منها. الموت. وأقدموا على ذلك الفعل المؤسف، والذي لا يدل إلا على أن مجتمعنا مليء بالقتلة السايكوباثيك. ليس هذا الحديث للمسلمين فقط، بل كل من يؤذي غيره، ويتسبب بقتله، وإن كان لادينياً، ينقد داعش ليلاً نهاراً لنحرها المخالفين، ويقوم في المقابل بالقتل بطريقة أخرى من دون أن ينحر بيده. إن كنت منهم وتقرأ هذا الكلام، فخذ هذا الخبر، أنت لا تختلف عن داعش، كلكم قتلة.
ليس هذا لوماً، لكني أريد البعض أن يعوا ما يقوموا به. إن كلمة وعبارة واحدة كفيلة بأن تؤذي أحدهم وتقوده إلى الموت. كثيرون لا يعون هذا ولهذا أذكره، ولن أضيع كثيراً من وقتي وجهدي معهم إن لم يكتفوا بما قلته. فعلت ما اعتقد أنه يجب علي فعله، وأتمنى أن تصلح هذه الكلمات بعض مما أتلفه الحمقى.
ختام:
إن من أهم ما يميز الاكتئاب هو أنه يجعل من يصاب به يشعر بأن ألمه لا نهاية له، ألم دائم وأبدي. لكن الواقع يقول غير هذا، يوجد نهاية. الاكتئاب مرض حقيقي، مثله كمثل أي مرض أو إصابة أخرى، فأصله يعود لأسباب مادية في الدماغ، وهو مرض يمكن علاجه والتعامل معه. كل ما على الفرد ألا يستسلم له، وأن يسعى للعلاج والتخلص منه. ليس الخطأ خطأك حينما يكسر أحدهم يدك ولا تعمل بالشكل المطلوب منها في مهامها اليومية، وليس الخطأ خطأك حينما تتغير كيمياء الدماغ لديك بسبب حماقات الحمقى وتتأثر النواقل العصبية، ولا يأدي دماغك مهامه اليومية بالشكل المطلوب. ولكن يمكن ليدك أن تتعافى، كما يمكن ذلك لذهنك. ذكرنا بعض الحجج للبقاء، تختصرها جينفر هيت بـ " لا أحد منا يستطيع أن يعرف ما نعنيه حقاً للآخرين، ولا أحد منا يستطيع أن يعلم ما ستجربه أنفسنا في المستقبل." لتكمل قائلة:
التاريخ والفلسفة يطلبان منا أن نتذكر هذين السرين، أن ننظر للأصدقاء من حولنا، عائلاتنا، الإنسانية، أن ننظر للمفاجئات التي تجلبها الحياة – الاحتمالات اللانهائية التي تجلبها حياتنا – والمثابرة. يوجد حب ورؤية لنحيا من أجلها، لحظات مشرقة للاعتزاز والفخر، وحتى أيضاً احتمالات السعادة، وإمكانية أن نساعد شخص آخر خلال مشاكله الخاصة. تعرف على أولائك الأشخاص، في الماضي والحاضر، تعرف على القدر من العزيمة المحتاج للبقاء. كن شاهداً على الجانب المظلم لأن نكون بشراً، والشجاعة التي تورثها، وأنتظر الشمس. أول خطوة هي أن ننظر للحجج والأدلة لنبقى. وبعد ذلك، أي شيء يمكن أن يحدث. ولكن أولاً، أختر أن تبقى.
رسالتي الأخيرة، قد لا يكون ما ذكرته هنا مقنعاً لكثيرين. لدي حدود، ولا أستطيع ذكر أمور لم أمر بها. إن كانت لديك تجربة مختلفة فشاركني إياها، فقد نجد حلاً لها سوياً، ونستطيع مشاركتها هنا، ويستفيد منها من يواجهون مثلها. لمن يقرأ ولم يجد ما يرضيه، كل ما أطلبه منك أن تتحدث. أذهب لمختص، وإن احتجت لأحد للتحدث معه فأنا هنا، سواءً كنت مسلماً، مسيحياً، يهودياً، ربوبياً، ملحداً، أو أياً كنت، لا يهمني ذلك. نعم، لست مختصاً، وقد لا أعرفك، ولكني أهتم بك وبكل انسان، وأعلم أن لديك الكثير لتقوم به في هذا العالم. أنت على قيد الحياة، مما يجعلك قادر على فعل أمر ما، أي أمر. لا تتردد أو تخجل من الحديث، وإن أردته، فأنا موجود في أي وقت. أعيد، إن كانت تراودك أفكار بالانتحار، وإن كانت قليلة، فالأمر ليس عادياً، وليست "مجرد أفكار." وتذكر أن أهم نصيحة أستطيع تقديمها هنا هي أن تذهب لمختص. إن لم تجد طبيباً مناسباً تثق به، فسيكون من دواع سروري أن أساعدك على إيجاده.
هو أنت قلبت؟ - اختيار الميول الجنسية من وجهة النظر العلمية
مقتبس من كتاب Gay, Straight, and the Reason Why لـ Simon LeVay
"يهتم الناس بالجنس أكثر من اهتمامهم بالمعرفة عنه، وهذا أحد الأسباب لوجود مشاكل بسببه." - أنثوني كليفرد غريلينغ
كثر الجدل في الآونة الأخيرة، في مواقع التواصل الاجتماعي، حول مسألة المثلية الجنسية. وتفرق الأفراد بها لآراء مختلفة بين مؤيد ومعارض. ولم يقفوا هنا، بل منهم من لا يرى مانعاً بالرغم من أنه يراه أمراً خاطئاً. وكما اختلفوا في النتائج، فقد اختلفوا أيضاً بالأسباب التي أوصلتهم لهذه النتائج، فمنهم من يرى أن العلم يدعم رفض المثلية، ومنهم من يرفضها أخلاقياً. والعكس في المقابل، منهم من يرى العلم يدعمها، ومنهم من يرى الأخلاق تدعمها. وبعيداً عن افتراءات هذا وادعاءات ذاك، سيكون مقالي بصيغة أكاديمية بحتة، حيث لن آتي بشيء إلا وقد دعمته بالمصادر العلمية والأكاديمية الرصينة. وسيكون على من أراد أن يفند ما أقوله أن يأتيني بمصادره العلمية الداعمة لتفنيده. ولا نهمل ذكر أن المصادر المستخدمة يجب أن تكون خاضعة لمراجعة الأقران للتأكد من سلامتها العلمية بعيداً عن الآراء والانحيازات الشخصية، متبعين بذلك الأدلة والمنطق إلى حيث تأخذنا من دون أحكام مسبقة.
سيكون حديثنا في هذا المقال عن أن الميول الجنسية ليست بالأمر الخاضع لاختيار الشخص، بل هي خارجة بشكل كامل عن إرادة الفرد، وليس لأحدهم الخيرة فيما يميل له جنسياً كما هو الحال مع لون بشرته. يجدر بنا ذكر أن هذا لا يجيب على أسئلة مثل ‘هل هي مرض ويحتاج إلى علاج؟’، ولا على ما إذا كانت أمراً صائباً أو خاطئاً. سأحاول الإجابة على هذه الأسئلة في مقالات أخرى، ولكن في هذا المقال سيكون سؤالنا الذي لن نتجاوزه هو "هل المثلية اختيار كما يزعم الكثير؟".
قبل أن أبدأ في طرح ما لدي أريد أن أضع الخطة التي سأتبعها لإيصال ما لدي، هذا لأسهل على القارئ التسلسل بالأفكار معي من دون أن أشتته. سيكون حديثنا في المسألة البيولوجية، والتي غالباً ما يكون الخلاف حولها )في غير الوسط الأكاديمي(. وسنركز فيها على ناحية واحدة اعتقد، كما سيتضح لك عزيزي القارئ بعد الاطلاع عليها، أنها كفيلة بإيضاح نقطتي وإيصالها بشكل كاف، ألا وهي الدماغ وعلم الأعصاب. يوجد العديد من العوامل الأخرى التي لن يكفي مقال واحد لذكرها، وهو ما أعمل عليه حالياً في كتاب يتحدث عن هذه المسألة بشكل مفصل من نواحٍ مختلفة. ولكن هنا، في هذا المقال، فلن أتجاوز هذه المسألة في الموضوع البيولوجي. ومن خلال هذه النقطة سنصل للنتيجة التي ستجيب على سؤالنا الذي سيكون هل يختار المثلي أن يكون مثلياً؟
الدماغ والجنس
جميع ما نقوم به من حركة، سلوكيات، تصرفات، وعواطف يأتي من الدماغ، فهو المركز الأهم الذي يتحكم بجميع سلوكياتنا. من المهم أن نعي أن دماغ المرأة يختلف عن دماغ الرجل تشريحياً، وهو ما ينتج عنه اختلاف في سلوكياتهما التابعة لهذه الاختلافات التشريحية للدماغ. ومن المعلوم كذلك أن أحدنا لا يختار كيف يكون دماغه، فإذا كانت سلوكياتك تابعة لهيكلة دماغك، وكانت هيكلة دماغك بشكل معين يحدد هذه السلوكيات، فليست هذه السلوكيات من اختيارك بل هي نتيجة لهيكلة دماغك التي هي خارجة عن اختيارك. يصبح سؤالنا هنا "هل الميول الجنسية تابعة لهيكلة الدماغ؟"
في دراسات أجريت على hypothalamus عند الفئران، وهي منطقة مسؤولة عن عديد من السلوكيات الأساسية كالأكل، الشرب، والجنس، تبين أن مجموعة الخلايا SDN-POA (the sexually dimorphic nucleus of the preoptic area) الموجودة في منطقة medial preoptic area (جزء في مقدمة الـ hypothalamus مسؤول عن السلوكيات الجنسية، مثل اعتلاء الذكر الأنثى لممارسة الجنس معها) تختلف بين الذكور والإناث، ففي الذكر تكون مجموعة الخلايا هذه (SDN-POA) أكبر حجماً منها في الأنثى (Gorski et al., 1985; Gorski, 1978). وفي دراسات لاحقة لهذه الدراسة وجد نفس الاختلاف في مجموعة الخلايا ذاتها في أنواع أخرى من الثدييات ومنها القردة العليا (Commins & Yahr, 1984; Tobet et al., 1986; Byne, 1998; Roselli et al., 2004; Vasey & Pfaus, 2005). يقابل مجموعة الخلايا SDN-POA عند البشر مجموعة INAH3 (The third interstitial nucleus of the anterior hypothalamus). وكما هو الحال مع الفئران، فإن INAH3 لدى الرجال أكبر مرتين إلى ثلاث مرات من النساء (Allen et al., 1989; LeVay, 1991; Byne et al., 2001). ليس هذا هو الفرق الوحيد بين دماغي الرجل والمرأة، ولكننا لغرض هذا المقال سنركز على هذه المجموعة من الخلايا تحديداً.
مع أخذ هذه الاختلافات بعين الإعتبار، فإنه من غير المستغرب أن نجد اختلافاً في السلوكيات بين الجنسين. ومن هذه الاختلافات السلوكية الاختلاف في السلوكيات الجنسية. فنجد، في الشائع، الذكر يبحث عن شريك جنسي بين الإناث بينما تبحث الأنثى عن شريك جنسي بين الذكور. وتختلف كذلك السلوكيات بشكل ظاهر أثناء العملية الجنسية، فالذكر يقوم باعتلاء ظهر الأنثى بينما تبعد الأنثى قدميها لتسمح للذكر بالإيلاج. فعند الفئران مثلاً، تقوم الأنثى باستخدام سلوكيات مثل هز أذنيها بشكل مستمر قريباً من الذكر كعامل إغراء (Luine & Dohanich, 2007).
تتطور هذه الفروق الجنسية في مراحل مبكرة جداً، حيث تبدأ هذه الفروقات بأسباب جينية لتصبح فيما بعد فروقات تشريحية في الدماغ مؤدية إلى اختلافات سلوكية. إن قصتنا تبدأ مع الكروموسومات الجنسية، تمتلك ذكور الثدييات، بينهم البشر، الكرموسومين X و Y، في حين تمتلك الإناث كروموسومي X. أحد الجينات الموجودة في الكروموسوم Y يدعى SRY، وهو جين مهم جداً في بداية تكون الذكور (Wilhelm et al., 2007). تكمن أهمية هذا الجين بأنه يمتلك التعليمات لوضع نسيجين صغيرين لينموان داخل الخصيتين: وهي الغدد التناسلية التي تنتج الحيوانات المنوية والتي تنتج أيضاً هرمون testosterone، وهو هرمون جنسي رئيسي لدى الذكور. وبذلك تقوم الخصيتين بقيادة نمو بقية أعضاء الجسم وتشكل الدماغ عند الذكور.
أما لدى الإناث، فإن جينات أخرى تعطي التعليمات لتجعل هذين النسيجين الصغيرين يتطورون داخل المبايض: هذين النسيجين هما ما يصبحان الغدد التناسلية التي تنتج البويضات بالإضافة إلى هرمونين مهمين في تطور الأنثى ووضائف الأعضاء لديها وهما estrogen و progesterone. أحد الملاحظات المهمة هي أن هذين الهرمونين لا ينتجان بكمية كبيرة في المراحل الجنينية أو الطفولة المبكرة، فهما يفرزان بشكل كبير في وقت البلوغ. وبالتالي، في المراحل الجنينية، الفارق الرئيسي بين الذكور الإناث هو امتلاك الذكور لمستوى عال من هرمون testosterone وهرمونات أخرى مماثلة له تدعى androgens أو "صانعات-الذكر" والتي تفرز بواسطة الخصية.
يدعى النمو الأنثوي عادة بـ "الإعداد الافتراضي" لأنه النتيجة التي نحصل عليها عند غياب التعليمات الآتية من جين SRY بالإضافة إلى مجموعة معقدة من الجينات في الإناث تقوم بتشكيل المبايض وبعض الخصائص التشريحية الأنثوية. وبما أن الرجل يمتلك جميع هذه الجينات (الموجودة لدى الإناث)، فإن السؤال يصبح لما لا ينمو لدى الرجل أعضاء أنثوية (الرحم مثلاً) بالإضافة إلى صفاته التشريحية الذكورية؟
يكمن الجواب على هذا السؤال في جين SRY مع جينات أخرى تقوم بتغيير المسار للنمو الأنثوي. على سبيل المثال، تقوم الخصيتان اللتان تنموان في الذكر بإنتاج هرمون يدعى AMH (antimullerian hormone) والذي يمنع نضوج الرحم والمبايض.
يلعب testosterone الدور الأهم في الاختلافات في الدماغ. تأتي الأدلة التي تثبت هذا من دراسات تم بها التلاعب بمستويات testosterone بشكل اصطناعي (Gorski, 1985; Goto et al., 2005; Sakuma, 2009). ففي حالة SDN-POA على سبيل المثال، فإن تخفيض مستوى testosterone في الذكور، عن طريق الإخصاء أو عن طريق منع تأثيره بواسطة كيميائيات مضادة له، أدى إلى أن ينمو SDN-POA بحجم أصغر وعدد خلايا أقل مقارنة بالذكور الغير معالجين. والعكس، في حالة الإناث، إضافة testosterone أدت إلى حجم أكبر وعدد خلايا أكثر من الإناث الغير معالجات، أقرب بحجمها وعددها إلى الذكور الغير معالجين.
بالرغم من أن أغلب الدراسات أجريت على SDN-POA إلى أن هذه التعديلات الهرمونية تقود اختلافات جنسية أخرى في أدمغة الفئران وحيوانات أخرى. وليس بالضرورة أن يكون مستوى testosterone العالي يعني دائماً حجم أكبر، ففي مجموعة خلايا أخرى لدى الفئران موجودة في hypothalamus تدعى AVPV والتي تختلف جنسياً بين الذكر والأنثى بشكل معاكس، فهي أكبر لدى الإناث منها لدى الذكور. في هذه الحالة، فإن مستوى testosterone العالي يؤدي إلى حجم خلايا أصغر وعدد أقل في مجموعة AVPV (Davis et al., 1996; Forger, 2009).
عامل آخر مهم، فبالرغم من أن تغيير مستوى testosterone يؤدي إلى هذه الاختلافات، إلا أن الوقت الذي تحدث فيه هذه العملية مهم جداً. ففي حالة SDN-POA عند الفئران، أغلب الأثر يحدث حينما يتم منع أو إضافة testosterone في فترة حرجة (critical period) من النمو. تبدأ هذه الفترة الحرجة بشكل مفاجئ في اليوم الثامن عشر من الحياة الجنينية (حوالي أربعة أيام قبل الولادة) وتبدأ بالانخفاض تدريجياً بعد بضعة أيام أو أسابيع من الولادة (Rhees et al., 1990a, b; Davis et al., 1995). فإخصاء ذكور الفئران البالغة ليس له أي تأثير على حجم SDN-POA، كل ما يسببه هو انكماش في بعض خلايا SDN-POA (Dugger et al., 2008). ولكن يجب أن نلفت النظر إلى أن هذه الهرمونات مهمة وضرورية في مرحلة بعد البلوغ لتحفيز السلوكيات الجنسية التي تشكلت عن طريق الإفرازات في المرحلة الحرجة. لذا فلدينا وظيفتين للهرمونات، وظيفة تنظيمية في المراحل المبكرة تشكل الدماغ وتحدد السلوكيات، ووظيفة تفعيلية تحفز هذه السلوكيات (McEwen, 1998; Cooke & Woolley, 2005).
إن testosterone في المراحل المبكرة من النمو يؤثر على تشكل مناطق في الدماغ مثل SDN-POA، ولن يكون الأمر مفاجئ إن علمنا أن هذا يؤثر أيضاً على سلوكيات الجنسية ما بعد البلوغ. قامت عديد من الأبحاث بالتركيز على سلوكين رئيسيين في التزاوج لدى القوارض: الاعتلاء (يظهر بشكل أكبر بالذكور) والانحناء (يظهر بشكل أكبر لدى الإناث). أظهرت هذه الدراسات والأبحاث بشكل عام أن الإناث اللواتي يتعرضن لـ testosterone في المراحل المبكرة من النمو يظهرن سلوك الاعتلاء كثيراً ويقل لديهن الانحناء حين يتم اعتلاءهن بعد البلوغ. والعكس مع الذكور، فقد أظهرت هذه الأبحاث أن الذكور الذين منعوا من testosterone في الفترة الحرجة قد أظهروا سلوك الانحناء الأنثوي كثيراُ. بالتالي، فإن هذا السلوك الجنسي بعد البلوغ يأتي كنتيجة لما يحدث في المراحل المبكرة من النمو من مستويات testosterone المرتفعة أو المنخفضة (Phoenix et al., 1959). نفس النتائج وجدت لدى عديد من الأنواع الأخرى كالقردة (Goy et al., 1988).
كما رأينا، فإن الجينات هي ما يعطي التعليمات لنمو الخصية التي تفرز بدورها هرمون testosterone. وبعد ذلك، في مرحلة مبكرة من النمو، وقبل الولادة، يقوم مستوى افراز testosterone بتحديد الاختلافات الجنسية التشريحية بين دماغي الذكر والأنثى، والذي يؤثر على السلوكيات الجنسية الصادرة من الجنسين. لكن هل تحدد هيكلة الدماغ، والتي هي خارجة عن إرادة الشخص، ميوله الجنسية؟
الميول والدماغ
إن ما يهمنا في ذكر هذه المعلومات هو الميول، ما علاقة هذه الدراسات بميولنا الجنسية؟ هل الميول الجنسية تتشكل تبعاً لهرموناتنا الجنسية؟
إن إعطاء testosterone لإناث الفئران في الفترة الحرجة جعلهم ينجذبون للإناث كشريك جنسي (de Jonge et al., 1988)، والعكس مع الذكور، فالفئران الذكور الذين منعوا من testosterone وتعرضوا لهرمونات أنثوية في سن البلوغ فضلوا الذكر كشريك جنسي (Vega Matuszczyk et al., 1988). ولكن تعرض الذكور للهرمونات أنثوية في سن البلوغ لهرمونات أنثوية من دون منع testosterone لم يحدث نفس النتيجة.
ونفس النتائج حصلت مع حيوانات أخرى مثل عصفور الزيبرا (Adkins-Regan, 2002)، الخنزير (Signoret, 1970; Ford, 1983). يجدر بالذكر ملاحظتين مهمتين، الأولى هي أنه في حالة عصفور الزيبرا كان للبيئة المحيطة تأثير مهم (Mansukhani et al., 1996; Adkins-Regan, 2005). أما الثانية فهي أن الهرمونات وتأثيرها تختلف بين الأنواع، ففي الطيور، كعصفور الزيبرا على سبيل المثال، estrogen هو الهرمون المؤثر بدلاً من testosterone. (Becker et al., 2002; Bodo & Rissman, 2007; Zuloaga et al., 2008; Grumbach & Auchus, 1999). ولذلك فإن ما يؤثر في نوع قد لا يؤثر، أو قد لا يحتاجه الآخر.
قد لا تحتاج الخلايا أيضاً للهرمونات لتحدد مسارها الجنسي، فكل خلية عصبية تملك جينوم كامل، فالخلية ذاتها تعلم جنسها. وقد أثبت الدراسات أن جنس الخلية ذاته يقود الفروقات الجنسية للدماغ والفروقات الجنسية السلوكية (Arnold et al., 2004; Gatewood et al. 2006; Arnold, 2009).
ما شرحناه حتى الآن ليس أكثر من عمل مختبرات، وليس الغرض منه أن نقول المثلية موجودة في كائنات أخرى، إنما الهدف منه شرح بعض المسائل المتعلقة بالميول والدماغ وكيف يحدث الاختلاف على مستوى الدماغ. وبالرغم من ذلك، فإن الاختلاف بالميول الجنسية موجود في الطبيعة، ولمن أراد المزيد حول ذلك أن يطلع على كتاب Biological exuberance لـ Bruce Bagemihl. وبالإضافة إلى ذلك، ليس الحديث هنا عن سبب حصول هذه الاختلافات بشكل طبيعي، فحقيقة أن كل ما طرحته هو عمل مختبري لا يحدد كيف تتشكل هذه الفروقات بشكل طبيعي، وإنما يعطينا العوامل المؤثرة على الميول فقط ليجيبنا على سؤالنا المحدد ما إذا كانت خياراً أم لا. فبمجرد وجود هذه الفروقات في أدمغة المثليين ستجعلنا نستنتج أن الأمر ليس خياراً، بعد ذلك يمكننا أن نبحث عن الأسباب التي جعلته بهذا الشكل. ولكيلا أجعل المقال طويلاً ومتشعباً، قررت أن أخصص لذلك مقالاً آخر.
الآن وبعد أن علمنا أن هيكلة الدماغ تؤثر بشكل مباشر على الميول الجنسية نحتاج أن ننتقل إلى السؤال التالي " هل لهذا الاختلاف في الدماغ، والذي يحدد الميول الجنسية، وجود لدى المثليين؟"
دماغ المثلي
بعد أن تعرفنا على تفاصيل مختلفة في الدماغ من حيث الاختلافات وتأثيرها على الميول الجنسية والعوامل المؤثرة فيها من هرمونات جنسية، فإن النقطة التالية هي دماغ المثليين. لكي أكون واضحاً في طرح ما أريد الوصول إليه، فإني أضع حجتي بالشكل التالي:
1- إن وجد اختلاف بين دماغ المثلي ودماغ المغاير وكان الاختلاف بمنطقة ذات علاقة بالميول الجنسية فإن مسألة الميول مرتبطة بتشكل الدماغ وليس لها علاقة باختيار الشخص.
يصبح السؤال هنا، هل يوجد اختلاف بين دماغ المثلي والمغاير؟ والجواب على ذلك نعم. لقد أكتشف عالم الأعصاب الأمريكي Simon LeVay فارق مهم بين دماغ المثليين والمغايرين. في بحث أجراه على عينة من الذكور المثليين، الذكور المغايرين، وإناث مجهولي الميول وجد LeVay أن حجم الخلايا في مجموعة INAH3 - وهي، كما ذكرنا، المجموعة المقابلة لمجموعة SDN-POA لدى الفئران والتي تؤثر بشكل واضح على الميول الجنسية (Byne, 1998) – كانت أصغر بمراحل لدى الرجال المثليين من الرجال المغايرين. بل ولم يجد اختلاف كبير بينها وبين الإناث في التجربة (LeVay, 1991). فيصبح الحديث:
2- يوجد اختلاف بين دماغ المثلي ودماغ المغاير.
3- الاختلاف في منطقة لها تأثير مباشر على الميول الجنسية.
4- إذاً، فمسألة الميول المثلية مرتبطة بتشكل الدماغ وليس لها علاقة باختيار الشخص.
لقد أوصلنا العلم الحديث إلى ما نحن عليه اليوم من تقدم ورفاه. ومن الغريب ألا نأخذ ما يقوله فقط لأنه يخالف ما اعتقدناه مسبقاً، إن العلم أداة قوية وهاهو يكشف لنا أحد أخطائنا وسوء فهمنا للأمور من حولنا. ليست المثلية اختياراً، ولا يحدد أحدهم ميوله.
ما يهمني حقيقةً هو التالي: إن كان اختيارك لميولك الجنسية لا يختلف كثيراً عن اختيارك للونك، فليس الخطأ خطأك، بل هو خطأ ذلك الشخص الذي ينزعج أشد الإنزعاج من وجود أناس مثليين، يبغضهم، ويتقزز منهم. وإن لم يكن هنالك سبب منطقي ومقنع وراء ذلك، كما سنوضح لاحقاً، ألا تصبح هذه عنصرية وكره مثلها مثل العنصرية ضد اللون أو العرق؟ أليست كرهاً للبشر فقط لما هم عليه من اختلاف عنه؟ في حديثي مع زميلي قمت بذكر هذه التفاصيل وأمور أخرى لأوضح موقفي وحقي، وأنه اختلاف بيننا كما نختلف بصفات أخرى. لم أسكت وأتجاهل المسألة لكي "تعدي على خير،" بل دافعت عما هو لي ومن حقي. والآن، أضع رسالتي هنا للمثليين وغيرهم ممن تسلب حقوقهم فقط لاختلافهم سواء ببشرة، ميول، عرق، جنس، أو أياً كان: لا تدع أحدهم يحاربك لكونك أنت، دافع عن نفسك وطالب بما هو لك. لا تجعلهم يشعرونك بالنقص، هذا أنت، وهذا ما أنت عليه. ولا تجعلهم يؤثرون عليك ليجعلوك أقل انسانية أو أقل قيمة منهم بحديثهم الخال من الصحة، والذي لا ينبع إلا من جهل بأننا مختلفون. كن كما أنت، فليس العيب فيك، بل فيمن ينشر الكراهية ولا يتقبل الاختلاف بين البشر، العيب منهم لعدم تقبلهم لاختلافك عنهم. لقد أجبت في هذا المقال على سؤال واحد يتعلق في المسألة، ولا زالت هنالك أسئلة أخرى تحتاج لإجابات، على أمل أن أقوم بذلك في مقالات أخرى.
Adkins-Regan, E. (2002). Development of sexual partner preference in the zebra finch: a socially monogamous, pair-bonding animal. Arch Sex Behav . 31, 27–33.
Adkins-Regan, E. (2005). Hormones and animal social behavior . Princeton University Press.
Allen, L. S., Hines, M., Shryne, J. E. & Gorski, R. A. (1989). Two sexually dimorphic cell groups in the human brain. J Neurosci . 9, 497–506.
Arnold, A. P. (2009). The organizational-activational hypothesis as the foundation for a unified theory of sexual differentiation of all mammalian tissues. Horm Behav . 55, 570– 578.
Arnold, A. P., Xu, J., Grisham, W., Chen, X., Kim, Y. H. & Itoh, Y. (2004). Minireview: Sex chromosomes and brain sexual differentiation. Endocrinology . 145, 1057–1062.
Becker, J. B., Breedlove, S. M., Crews, D. & McCarthy, M. M. (Eds.) (2002). Behavioral endocrinology (2nd. ed.). Boston: MIT Press.
Bodo, C. & Rissman, E. F. (2007). Androgen receptor is essential for sexual differentiation of responses to olfactory cues in mice. Eur J Neurosci . 25, 2182–2190.
Byne, W. (1998). The medial preoptic and anterior hypothalamic regions of the rhesus monkey: cytoarchitectonic comparison with the human and evidence for sexual dimorphism. Brain Res . 793, 346–350.
Byne, W., Tobet, S., Mattiace, L. A., Lasco, M. S., Kemether, E., Edgar, M. A., Morgello, S., Buchsbaum, M. S. & Jones, L. B. (2001). The interstitial nuclei of the human anterior hypothalamus: an investigation of variation with sex, sexual orientation, and HIV status. Horm Behav . 40, 86–92.
Commins, D. & Yahr, P. (1984). Adult testosterone levels influence the morphology of a sexually dimorphic area in the Mongolian gerbil brain. J Comp Neurol . 224, 132–140.
Cooke, B. M. & Woolley, C. S. (2005). Gonadal hormone modulation of dendrites in the mammalian CNS. J Neurobiol . 64, 34–46.
Davis, E. C., Shryne, J. E. & Gorski, R. A. (1995). A revised critical period for the sexual differentiation of the sexually dimorphic nucleus of the preoptic area in the rat. Neuroendocrinology . 62, 579–585.
Davis, E. C., Shryne, J. E. & Gorski, R. A. (1996). Structural sexual dimorphisms in the anteroventral periventricular nucleus of the rat hypothalamus are sensitive to gonadal steroids perinatally, but develop peripubertally. Neuroendocrinology . 63, 142–148.
de Jonge, F. H., Muntjewerff, J. W., Louwerse, A. L. & van de Poll, N. E. (1988). Sexual behavior and sexual orientation of the female rat after hormonal treatment during various stages of development. Horm Behav . 22, 100–115.
Dugger, B. N., Morris, J. A., Jordan, C. L. & Breedlove, S. M. (2008). Gonadal steroids regulate neural plasticity in the sexually dimorphic nucleus of the preoptic area of adult male and female rats. Neuroendocrinology . 88, 17–24.
Ford, J. J. (1983). Postnatal differentiation of sexual preference in male pigs. Horm Behav . 17, 152–162.
Forger, N. G. (2009). Control of cell number in the sexually dimorphic brain and spinal cord. J Neuroendocrinol . 21, 393–399.
Gatewood, J. D., Wills, A., Shetty, S., Xu, J., Arnold, A. P., Burgoyne, P. S. & Rissman, E. F. (2006). Sex chromosome complement and gonadal sex influence aggressive and parental behaviors in mice. J Neurosci . 26, 2335–2342.
Gorski, R. A. (1985). Sexual dimorphisms of the brain. J Anim Sci . 61 Suppl 3, 38–61.
Gorski, R. A., Gordon, J. H., Shryne, J. E. & Southam, A. M. (1978). Evidence for a morphological sex difference within the medial preoptic area of the rat brain. Brain Res . 148, 333–346.
Goto, K., Koizumi, K., Ohta, Y., Hashi, M., Fujii, Y., Ohbo, N., Saika, O., Suzuki, H., Saito, K. & Suzuki, K. (2005). Evaluation of general behavior, memory, learning performance, and brain sexual differentiation in F1 offspring males of rats treated with flutamide during late gestation. J Toxicol Sci . 30, 249–259.
Goy, R. W., Bercovitch, F. B. & McBrair, M. C. (1988). Behavioral masculinization is independent of genital masculinization in prenatally androgenized female rhesus macaques. Horm Behav . 22, 552–571.
Grumbach, M. M. & Auchus, R. J. (1999). Estrogen: consequences and implications of human mutations in synthesis and action. J Clin Endocrinol Metab . 84, 4677–4694.
LeVay, S. (1991). A difference in hypothalamic structure between heterosexual and homosexual men.
Luine, V. & Dohanich, G. (2007). Sex differences in cognitive function in rodents. In: Becker, J. B. et al. (Eds.), Sex differences in the brain: From genes to behavior (pp. 217–251).
Mansukhani, V., Adkins-Regan, E. & Yang, S. (1996). Sexual partner preference in female zebra finches: the role of early hormones and social environment. Horm Behav . 30, 506–513.
McEwen, B. S. (1998). Multiple ovarian hormone effects on brain structure and function. J Gend Specif Med . 1, 33–41.
Phoenix, C. H., Goy, R. W., Gerall, A. A. & Young, W. C. (1959). Organizing action of prenatally administered testosterone propionate on the tissues mediating mating behavior in the female guinea pig. Endocrinology . 65, 369–382.
Rhees, R. W., Shryne, J. E. & Gorski, R. A. (1990a). Onset of the hormone-sensitive perinatal period for sexual differentiation of the sexually dimorphic nucleus of the preoptic area in female rats. J Neurobiol . 21, 781–786.
Rhees, R. W., Shryne, J. E. & Gorski, R. A. (1990b). Termination of the hormone-sensitive period for differentiation of the sexually dimorphic nucleus of the preoptic area in male and female rats. Brain Res Dev Brain Res . 52, 17–23.
Roselli, C. E., Larkin, K., Resko, J. A., Stellflug, J. N. & Stormshak, F. (2004). The volume of a sexually dimorphic nucleus in the ovine medial preoptic area/anterior hypothalamus varies with sexual partner preference. Endocrinology . 145, 478–483.
Sakuma, Y. (2009). Gonadal steroid action and brain sex differentiation in the rat. J Neuroendocrinol . 21(4), 410–414.
Signoret, J. P. (1970). Reproductive behaviour of pigs. J Reprod Fertil Suppl . 11, Suppl 11:105+.
Tobet, S. A., Zahniser, D. J. & Baum, M. J. (1986). Differentiation in male ferrets of a sexually dimorphic nucleus of the preoptic/anterior hypothalamic area requires prenatal estrogen. Neuroendocrinology . 44, 299–308.
Vasey, P. L. & Pfaus, J. G. (2005). A sexually dimorphic hypothalamic nucleus in a macaque species with frequent female-female mounting and same-sex sexual partner preference. Behav Brain Res . 157, 265–272.
Vega Matuszczyk, J., Fernandez-Guasti, A. & Larsson, K. (1988). Sexual orientation, proceptivity, and receptivity in the male rat as a function of neonatal hormonal manipulation. Horm Behav . 22, 362–378.
Wilhelm, D., Palmer, S. & Koopman, P. (2007). Sex determination and gonadal development in mammals. Physiol Rev . 87, 1–28.
Zuloaga, D. G., Puts, D. A., Jordan, C. L. & Breedlove, S. M. (2008). The role of androgen receptors in the masculinization of brain and behavior: what we’ve learned from the testicular feminization mutation. Horm Behav . 53, 613–626.
النبوءات القديمة تثبت وجود إلهي! – لماذا أؤمن بالله
لماذا أؤمن بالله هي سلسلة مقالات عن أسباب يطرحها المؤمنون لإيمانهم. مقتبسة ومترجمة بتصرف من كتاب 50 Reasons People Give for Believing in a God لـ Guy Harrison.
رجل يهودي يمر بخطى سريعة. يحمل طفلاً بين ذراعيه ويبتسم وهو مار. والبندقية الآلية المتدلية من على ظهره عبارة عن تذكير بالخوف والكراهية التي ليست بعيدة جداً في الأراضي المقدسة. قسمت البلدة القديمة إلى "مأوي" عرقية ودينية. التوحد والاندماج بعيد المنال هنا. نقاط التفتيش العسكرية ومنشورات التحذيرات الإرهابية تخرب مدينة كانت يمكن أن تكون كبسولة زمن جذابه لتاريخ البشرية. قد تكون القدس مكاناً مقدساً. قد تكون أيضاً مكان الله المختار. لكنها بالتأكيد ليست مكاناً سعيداً.
مع اقترابي للمنطقة المقدسة، كل ما أستطيع التفكير به هو كيف تبدو هذه المنطقة هادئة ومسالمة. بالطبع، يمكن للمظاهر أن تكون خادعة. هذا المكان مشتعل بالتعصب الديني، الكراهية، والعنف. يوجد بعض المؤمنين الذين، وبكل سرور، على استعداد أن يَقتلون أو يُقتلون سواء حامين أو مدمرين لهذا المكان، اعتماداً على أي اصدار من الإله نفسه يكون اخلاصهم. تظهر قبة الصخر بسقفها الذهبي البراق، متوهجاً ومشرقاً على المدينة الحجرية. يمكن القول بأن المنطقة المحيطة به بما فيها هي أكثر قطعة عقارية مقدسة على هذا الكوكب. إن كان للإله أي عنوان محدد على الأرض، فإنه يجب أن يكون هذا. هنا، يقول المسلمون، المكان الذي ركب محمد فيه حصاناً مجنحاً وصعد للسماء ليلتقي الله. كثير من المسلمين مقتنعين بأن نهاية العالم كما نعرفها ستأتي قريباً وأن المسيح عيسى سيزور الأرض بعد أن رفعه الله له ليظهر للجميع، وأخيراً، أن الإسلام هو الدين الصحيح. إن اليهوديين والمسيحيين، بالطبع، شكوكيين إلى حد بعيد جداً ليصدقوا أن هذا ما سيحدث وبهذه الطريقة. فهم ليسوا مقتنعين، وعلى الأرجح على وعي بأنه على مدى الألف والأربع مئة سنة الماضية فشل المسلمون بتقديم أي دليل مقنع لدعم هذه النبوءة الغير اعتيادية.
عديد من اليهود لا يرون أي جمال في قبة الصخر، ولا قداسة للمسجد الأقصى. كل ما يرونه مبانٍ في غير محلها بنيت من قبل مؤمنين مضللين. يرى البعض أنها فضاضة وانتهاك فضيع يجب هدمها حتى يمكن أن تتم النبوءة المصيرية. فهنا، في هذا المكان، يريد ياوي معبده الأهم أن يبنى، وليس المسجد الأقصى وقبة الصخر تلك. إن اليهود الذين يصدقون بالنبوءة ينتظرون ذلك اليوم الذي سيكون باستطاعتهم بناء المعبد ومراقبة خطة إلههم وهي تتجلى وتظهر للعيان. حينما يحدث هذا، يقولون، فإن المسيح الحقيقي سيأتي أخيراً وسيتم تأكيد أنهم هم فعلاً شعب الله المختار، وأنهم كانوا على حق برفضهم المسيحية والإسلام. إن المسلمين والمسيحيين شكوكيين إلى حد بعيد جداً ليصدقوا أن هذا ما سيحدث وبهذه الطريقة، بالطبع. فهم ليسوا مقتنعين. وعلى الأرجح بسبب فشل اليهود على مدى آلاف السنين الماضية بتقديم أي دليل مقنع لدعم هذه النبوءة الغير اعتيادية.
وفي نفس الوقت، وداخل كنيسة القيامة القريبة، يدعوا الزوار المسيحيون، يبكون، ويتوقفون للالتقاط الصور. هم أيضاً لديهم نبوءة. نبوءة مشابهة بطبيعتها لنبوءة اليهود والمسلمين عدى أن مسيحهم، عيسى، قد زار الأرض سابقاً وصلب وقتل، ثم بعث بعد الموت بثلاثة أيام. والمرة القادمة ستكون زيارته الثانية، يقولون. وأنها قد تحدث في أي دقيقة الآن. نحن قريبون، قريبون جداً لنهاية العالم كما نعرفها، يقول بعض المسيحيين. إن المسلمين واليهود شكوكيين إلى حد بعيد جداً ليصدقوا أن هذا صحيح، بالطبع. فهم ليسوا مقتنعين، وعلى الأرجح بسبب فشل المسيحيين على مدى الألفي سنة الماضية بتقديم أي دليل مقنع لدعم هذه النبوءة الغير اعتيادية.
إن الشيء المتلائم في نبوءات المسيح الثلاث هو أنه دائماً "آت،" وأنه ليس بحاجة أبداً لكي يأتي هنا حقاً لتكون النبوءة مقبولة ويتم الدفاع عنها جيلاً بعد جيل كحقيقة. إنه لمن الصعب على غير المؤمنين أن يفهموا كيف لعديد من الناس عبر قرون عديدة أن يستمروا في ثقتهم بأنهم سيرون المسيح خلال حياتهم. كم من القرون يجب أن تمر حتى يبدأ المؤمنون بالشك؟ كم من آلاف السنين يجب أن تمر حتى نستطيع جميعاً الاتفاق على أن احتمال صحة هذه النبوءات بعيد؟
إن النبوءات السحرية لنهاية العالم ليست بعيدة أبداً عن ذهن أحد في القدس. ملايين من البشر يعتقدون أن إسرائيل ذاتها نبوءة محققة. كثير من اليهود والمسيحيين يقولون إن إلههم أنشأ دولة إسرائيل كما وعد أن يفعل بالضبط قبل زمن طويل. إن النبوءات "المحققة" مثل هذه تعتبر محرك قوي لكثير من المؤمنين. فهم يشعرون باقتناع بأن إلههم حقيقي لأنه وعد ووفى بوعده. لكثير من المؤمنين، تعتبر النبوءات دليل قاطع ومفحم على صحة دينهم.
ذهبت مغامراً خارج السور لأرى مزيداً من القدس بعد عدة أيام من استكشاف البلدة القديمة. في متحف إسرائيل وجدت مجموعة رائعة من القطع الفنية والتحف القديمة. قائلاً لنفسي "لا يوجد نقص في الإبداع أو العاطفة في هذه الأرض.” في حديقة خارج المتحف، التقيت وتحدثت مع مجموعة من النساء الإسرائيليات الجميلات. ابتساماتهن وضحكاتهن جعلتني أشعر بأني موضع ترحيب في هذا المكان الذي حتى الآن لا زلت أراه الجزء من العالم الذي أنتمي له. في وقت لاحق، وأنا أتجول ياد فاشيم، وهو مجمع مترامي الاطراف من معروضات المتحف والمنحوتات الموجودة في الهواء الطلق، والمحفوظات، والنصب التذكارية المخصصة لتدريس وتذكر المحرقة (الهولوكوست). ومن الواضح أن هذه الدولة الفتية لديها شعور قوي بتاريخها، وأن الوحدة تعني الكثير لشعبها. الكثير من هذه الوحدة، أظن، هو نتيجة للمعاناة الماضية والمخاطر الحالية. خارج مبنى متحف المحرقة، رأيت المئات من الجنود الإسرائيليين يتدفقون من الحافلات. على ما يبدو، فإن الزيارة لياد فاشيم جزء من مهامهم. تفاجأت بصغر أعمارهم وهم يضعون بنادقهم على العشب قبل الدخول إلى المتحف. كانوا صغاراً جداً ليحملوا البنادق ويرتدون الزي العسكري، على ما أعتقد. حتى أصغر من أن يَكرهوا أو أن يُكرهوا. ولكن هنا في الشرق الأوسط أدى الاعتقاد بالإله إلى الانفصال، الخوف، الكراهية، وعنف لا مفر منه جلبته تلك الأخطاء. أصبح البنادق والجنود الشباب ضرورة من أجل البقاء. ولكن لماذا؟ لماذا يجد اليهود والمسيحيين والمسلمين صعوبة في التعايش بسلام خلال العدة قرون الماضية؟ هل لأن ياوي، الرب، الآب، أو الله لم يكن واضحا بما فيه الكفاية حول الكيفية التي أراد أن يعبد بها؟ أو ربما كان خطأ من الأنبياء الذين فشلوا في إيصال رسائله بشكل صحيح. بغض النظر عن السبب، كانت النتيجة صداماً لا نهاية له بين المؤمنين الذين يشتركون على حد سواء نفس الإله ونفس الثقة التي لا تتزعزع بمعرفتهم لإرادته. المسيحيون والمسلمون ذبحوا بعضهم البعض أثناء الحروب الصليبية، والآن، يبدو الخطر وشيك الحدوث لإعادة المعركة مجدداً. ذبح المسيحيين اليهود في أوروبا لعدة قرون. وبطبيعة الحال، اليهود المسلمين كل منهم في نحر الآخر في الشرق الأوسط. طوال حياتي وأنا أسمع عن خطط السلام، وقف الاشتعال، ومؤتمرات السلام في الشرق الأوسط. باعتقادي أن هذه الأنواع من الجهود كانت فشلة دائماً، وسوف تفشل ودائماً، لأنها لم تعالج جذور المشكلة، الدين. إن الطريق إلى جمع الناس في هذه الاعتقادات المختلفة بالإله هو حملهم على اخذ اعتقاداتهم بجدية أقل. إن شعوب الشرق الأوسط بحاجة إلى الريبة. يحتاجون إلى الشكوكية. ما دامت الأطراف المتحاربة على يقين تام 100% من أن اعتقادهم هو الصحيح، فليس من المرجح أن نجد نتائج سلام أبداً.
في وقت لاحق من ذلك المساء انتهيت في مركز للتسوق حيث صادفت بسعادة مكتبة جيدة، طعام جيد، وصالة سينما. أحببت هذا المكان. ساعدني بما يكفي تقريبا على نسيان كل المشاكل والجدل الذي تحمله إسرائيل. تقريبا.
الكراهية. المستوطنات. الانتفاضة. الجدران. الدبابات. مفجرين انتحاريين. الأطفال الذين يلقون الحجارة. الفصل. التحيز. موت الأطفال. وطوال الوقت، يشير الجانبين إلى الإله إبراهيمي لتبرير أفعالهم.
هل الإله هو الحب؟ من خلال عيون غير المؤمن، كل هذا يملك شبهاً ملحوظاً بالجنون.
عدت لشوارع القدس القديمة مرة أخرى، أتساءل كيف يمكن لي الآن أن أكون أمشي على "دليل" وجود الإله الحقيقي. إني في الدولة التي يدعي العديد من المسيحيين أنها دليل لا يدحض على أن إلههم حقيقي. دولة إسرائيل، كما يقولون، تدل على أن الكتاب المقدس تنبأ بالمستقبل بشكل صحيح في الطريقة التي لا يمكن أن يفعلها سوى إله. ولذلك، يعلنون، يجب أن يكون الإله المسيحي هو الإله الحقيقي.
من الغريب أن الكثير من المؤمنين مقتنعون بأن إلههم خلق بشكل سحري الأمة الحديثة لإسرائيل. يوجد، بالرغم من كل هذه الادعاءات، شرحاً أبسط بكثير، شرح لا يتطلب إيماناً، سحراً، ولا حتى إلهاً. على المرء فقط أن ينظر في حقيقة أن العديد من اليهود في جميع أنحاء العالم يمتلكون تعلقاً وصلة ثقافية ودينية بهذه المنطقة. لديهم أيضا تقليد طويل من الاعتقاد بأن هذه الأرض موعودة لهم من قبل الإله. وكثير منهم لا يشعرون فقط بأنه سيكون من الجميل والجيد أن يعيشوا على هذه الأرض؛ بل انهم يعتقدون أنه من المفترض والواجب أن يعيشوا عليها. فهو المكان الذي أراد لهم إلههم أن يكونوا فيه. لا شك، ساعد الاضطهاد الشديد الذي عانى اليهود منه في أوروبا كمحفز ومحرك للأمة جديدة. كان اليهود يحلمون بأن يستطيعوا الصلاة من جديد فيما تبقى من معبد القدس، ليس كزوار لكن كمقيمين. بعض اليهود فعلوا أكثر من حلم. كانوا يعملون لتحقيق ذلك. تيودور هرتزل (1860-1904)، على سبيل المثال، حاول بجد ولوقت طويل لتحقيق حلم الوطن القومي لليهود، والذي كرم اليوم باعتباره والد الصهيونية. (كانت الصهيونية حركة دولية لإنشاء وطن قومي لليهود.) اعتقد هرتزل أن مشكلة معاداة السامية سيئة للغاية وغير قابل للعلاج بحيث أن أفضل أمل لليهود هو ببساطة ترك أوروبا وأماكن أخرى حيث يقوم المسيحيين وباستمرار بالتمييز ضدهم وأحيانا قتلهم. بالإضافة إلى أن فكرة وجود دولة يهودية في فلسطين تنسجم تماما مع معتقدات الكثير من المسيحيين.
لسنوات عديدة، عمل الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم، كان البعض منهم ذو ثراء وتأثير، لتحقيق هدفهم لإنشاء دولة يهودية في الشرق الأوسط. وكانت الولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية متقبلين للفكرة أكثر من أي وقت مضى بعد أهوال المحرقة، وفي عام 1948 تم إنشاء دولة إسرائيل. ولكن كيف لذلك أن يكون عملاً واضحاً من إله؟ كيف لذلك أن يكون وفاءاً سحرياً للنبوءة؟ دعونا نضع في عين الاعتبار أن إنشاء الدول لم يكان شيئاً جديداً للقوى الغربية. فقد كانت دول مثل إنجلترا، ألمانيا، والولايات المتحدة يعيدون رسم الحدود الوطنية كما يحلوا لهم، ودفعوا الناس في جميع الأنحاء عدة مرات في جميع أنحاء العالم. فأين، بالضبط، هو العنصر الخارق في خلق إسرائيل؟ لماذا يتصور المؤمنين أنهم يرون السحر وعمل الآلهة فيما يبدو انه وببساطة حدثاً بشرياً تماماً؟
لو أن الكنيست والمباني الحكومية الإسرائيلية الأخرى ارتفعت بشكل مفاجئ من الأرض، وشيدت بالكامل مع وجود طبقة جديدة من طلاء الجدران، فإن هذا حدث من شأنه أن يدعو لأن نتحمس له. أو حتى لو أن الأعلام الإسرائيلية قد ظهرت بطريقة سحرية من التربة، فهذا بالفعل من شأنه أن يكون سبباً وجيهاً للاعتقاد بأنه وفاء إلهي للنبوءة القديمة. ولكن عندما نرى أن هذا العمل الصعب تم انجازه من قبل الأمم المتحدة، حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، وكثير من الشعب اليهودي المتحفز، فإنه لا يمكن أن يعتبر عملاً صعباً سحرياً. ربما كان ذلك من عمل الإله ولكن أين هو الدليل على هذا الادعاء المذهل؟ كان رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان مسيحي، وكان يعلم جيداً الادعاء بأن الإله وعد اليهود بوطن. ربما يكون هذا هو ما أثر على قراره بالاعتراف رسميا بالدولة الجديدة. لا يوجد دليل في هذا الوقت أن الإله ألقى تعويذة سحرية على ترومان لجعله يدعم إنشاء إسرائيل.
أتساءل، كيف سيكون شعور هرتزل، والد الصهيونية، حول إسرائيل اليوم؟ مما لا شك فيه انه سيكون فخوراً بالقوة، والإنتاجية، وجمال البلاد وشعبها. ولكن ماذا كان سيقول عن العنف والتوتر المتزايد بين العلمانيين واليهود الأرثوذكس، والجدران؟ هل سيكون حزيناً لأنه، وفي في القرن الحادي والعشرين، لا يزال لا وجد لسلام عالمي بين اليهود والمسيحيين والمسلمين؟ هل سيعيد النظر في أي من معتقداته حول الصهيونية، دينه، أو إلهه؟ أو انه سيعتقد أن هذا بالضبط هو ما أراد الإله؟
بالنسبة لي، يبدو أنه من المرجح أن يكون هذا التاريخ الدموي والصراعات الحالية بين هذه الديانات الثلاث نتيجة لعمل البشر الناقصين وليس الإله مطلق القدرة، خارق الذكاء، والكمال. لماذا يضع الإله الحقيقي الذي يعلم الغيب هذا الجنون محل تنفيذ؟ يمكن لأي شخص بذهن نقي وقلب طيب أن يرى أن كره اليهود لأنهم "فقط يهود" أمر غير أخلاقي. ولكن كم من الناس أيضاً تعترف أنه من الخطأ أن يعزل كثير من اليهود أنفسهم عن بقية البشر باسم الولاء للإله وأنهم شعب الله المختار؟ يوجد أحياء في القدس قيل لي ألا أمشي بها، بسبب أن اليهود الأرثدوكس المتطرفين يعيشون هناك وأني سأرجم بالحجارة في وجهي لأنهم لا يرحبون بـ “الآخرين". في صباح أحد الأيام عند حائط المعبد (حائط المبكى)، اقترب مني قليلاً رجل يرتدي الطاقية اليهودية بابتسامة كبيرة. قلت له أني زائر ورحب بي بحماس في القدس وتمنى أن تكون زيارتي رائعة. للحظة ظننت بأنني سأحصل على صديق جديد. ولكن بعد ذلك سألني إذا كنت يهودياً. عندما قلت له بأني لست كذلك، اختفت ابتسامته، واختفى هو كما اختفت ابتسامته. كان ذلك تصرفاً غريباً للغاية وخالٍ من التهذيب. كان مهتماً بمعرفتي فقط في حال كنت يهودياً. كان ضحل الفكر وقصير النظر جداً. لماذا ينبغي لآلهة غير مثبتة أن تحدد مع من نتحدث، مع من نقيم علاقات الصداقة؟ لماذا يجب أن يهم انتمائي إلى هذه إله القبيلة أو تلك؟ لا زلت أنتمي إلى الإنسانية. ألا يكفي ذلك؟ إن إعراضنا عن بعضنا البعض، سواء كان ذلك بسبب القومية، العرق، أو الآلهة، أمر سيء دائماً للبشرية على المدى الطويل. ربما كان الجواب ألا تبنى دول جديدة وتقام جدران جديدة. ربما كان الجواب أن تواجه مشكلة المعتقد الديني كسم تقسيم خطير في نوعنا البشري. هل يوجد أي دين صحيح حقاً، وبشكل واضح، لدرجة أنه يبرر فصل الناس عن بعضهم؟ هل يوجد أي إله حقيقي حقاً وبشكل واضح لدرجة يصبح بها قتل الناس مبرراً؟ من بين جميع شرورنا، جميع القتل الذي قمنا به لأجل الأرض، الموارد، والذهب، لا يوجد جريمة لا تغتفر أكثر من القتل من أجل الآلهة الخفية التي قد لا يكون لها وجود أساساً.
على الرغم من أنني ذكرت نبوءة إسرائيل، إلا أن هنالك، بطبيعة الحال، أكثر من ذلك. وليست موجودة فقط في اليهودية والإسلام والمسيحية. جعلت العديد من الأديان على مدى آلاف السنين من نبوءات إلههم أو آلهتهم المحققة أمراً عظيماً. ولكن كل هذه النبوءات مبهم جداً، ومرنة، أو غير مؤكدة من مصادر موثوقة لدرجة أن على المرء، عادةً، أن يكون مؤمناً بها أصلاً لكي يستعجب منها. لست يهودياً ولا مسيحياً. لذلك، فإن إنشاء إسرائيل لا يقنعني أن إلههم حقيقي. أنا ببساطة أعتقد، على الأرجح، أن اليهود أرادوا بلداً خاصاً فشكلوا ضغطاً لأجل ذلك، عملوا لذلك، وحصلوا عليه. لا أرى الإله في تلك العملية، في حين أن اليهودي أو المسيحي يراه. ألا يفهم المؤمنون بالنبوءات أنه لو كانت نبوءة واحدة، مجرد واحدة فقط، من نبوءاتهم العديدة لا لبس فيها، وكانت مؤكدة من مصادر موثوقة غير منحازة، فإنها ستقنع الجميع في العالم تقريباً بين عشية وضحاها؟ حقيقة أنه لا يوجد نبوءات من أي دين في أي وقت مضى كانت كذلك تجيب وحدها عن هذا السؤال. لو كان دين واحد فقط قدم نبوءة واضحة واحدة فقط لا يمكن تفسيرها بسهولة بعيداً عن أن الإله فعلها، فسنرى أفواجاً من ناس تنضم لذلك الدين. ولكن ذلك لم يحدث لأنه لا يوجد أي دين يملك مثل هذه النبوءة.
إن الهالة، والإثارة حول النبوءات التي نراها في كثير من الديانات المتنوعة هي على الأرجح نتيجة لحقيقة أن معظم الناس لا يفكرون بشكوكية. لنفس هذا السبب لا يزال هنالك مشجعين لنوستراداموس (عراف فرنسي من القرن السادس عشر) في القرن الحادي والعشرين. لم يسبق له أن أعطى تنبؤ مذهل لأي شيء تحقق، وبالرغم من ذلك، لا يزال يظهر في الكتب وعلى شاشات التلفاز اليوم. على الرغم من عدم وجود أساس له في الواقع، لنفس هذا السبب أيضاً يستمر تنجيم بجلب الأرباح. وهذا هو نفس السبب الذي جعل الناس يعطون أموالهم للعرافين والوسطاء الروحانيين، على الرغم من احتمال ألا يكون ذلك أكثر من عملات احتيال.
بالنسبة لأولئك المؤمنين الذين هم على يقين من أن بعض النبوءات الغامضة تحققت بالفعل، حتى هنا، فهذا ليس كافٍ. قد قام المؤمنين بالآلهة بوضع الآلاف من التنبؤات لآلاف السنين. أليس من المرجح أن البعض منها يتحقق من خلال الحظ فقط؟ حتى الوسطاء والعرافين المتلعثمين في يومنا هذا يتنبؤون ببعض الأمور بشكل صحيح بين الحين والآخر. إلى جانب ذلك، يمكن لأي شخص التنبؤ بالمستقبل بنفس الطريقة إن كانت “دقيقة.” جرب ذلك بنفسك. أكتب خمسين نبوءة على خمسين ورقة منفصلة، ثم ضع كل ورقة في ظرف منفرد وأقفله، ولا تفتحها إلا بعد مرور سنة. على افتراض أنك لست الشخص الأسوأ حظاً في العالم، فسوف تحصل، على الأقل، على عدد قليل منها بشكل صحيح. هنا الخدعة، أظهر لأصدقائك تلك التي حصلت فقط. سيقتنع عدد منهم بأنك عراف أو نبي. بل أن بعضهم قد يعطيك أموالاً حتى.
لتتفوق في مسألة التنبؤ بالمستقبل حقاً، فإن عليك أن تكون غامضاً، غامضاً جدا. على سبيل المثال، لا تقل: "سيتم انتخاب رجل بطول متر وخمسة وستين سم يدعى ويلبر ماكفرتير من جيفورد، فلوريدا، رئيساً للولايات المتحدة في غضون السنوات العشر القادمة." هذه نبوءة محددة ودقيقة لحد بعيد جداً، ومخاطرة كبيرة جداً. لن يضع أي نبي ذكي نفسه في مأزق كهذا. قل، بدلا من ذلك: "سيتم انتخاب شخص ديني وثري من أصول أوروبية رئيساً للولايات المتحدة في غضون السنوات الخمسين المقبلة."
كان دان باركر، الرجل الذي أنتقل من واعظ مسيحي إلى الملحد، منغمساً بشكل عميق في ادعاءات النبوءات المحققة في الكتاب المقدس خلال أيامه كمؤمن. فقد عزز ذلك استنتاجه على كون عيسى ابن مريم الإله الحقيقي، وكان يستخدم النبوءات لإقناع الآخرين بأن المسيحية هي الدين الحق. عندما سمح لنفسه بحرية التفكير بشكل نقدي، بالرغم من هذه القناعات، انهار كل شيء. كان هذا رجلاً درس الكتاب المقدس من الغلاف إلى الغلاف. تعلمه، احبه، بشر به، وآمن به تماماً. ولكن التفكير النقدي فجر هذه الفقاعة. اليوم، يعلم باركر جيداً أنه لا وجود لنبوءات محددة، دقيقة، ولا يمكن تفسيرها إلا بوجود إله، أبداً في الكتاب المقدس. يقول باركر:
إذا أراد المسيحيين أن يكونوا مستندين على أساس متين، وكانوا يرغبون بإقناعنا نحن غير المؤمنين، فيجب أن يرحبوا بإجراء فحص دقيق للكتب المقدسة. ربما كان سبب تجنبهم للفحص الدقيق هو أن مثل هذه التساؤلات لن تظهر غير حقيقة أن ادعاءات النبوءات المحققة إما مبالغات صارخة أو أكاذيب اكيدة. يمكن ترتيب تفنيد النبوءات إلى خمس فئات عامة: غموض، انجاز قسري، نبوءات مؤجلة، أو عدم وجود نبوءة بسبب احتمال التحقق.
بعض النبوءات مبهمة أو عامة لدرجة أن عديد من الأحداث يمكن أن تتناسب معها. "لتقومن أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في ماكن بعد الآخر" (متى 24: 7). مرور عشرون قرناً مختلفة على سفر متى يعطي أمكانية لأن توصف هذه الحالة بأنها تحققت. أعتبر المسيحيين باستمرار ولمدة ألفي سنة أن العالم سينتهي. العالم "دائماً سينتهي." عدم الدقة من هذه "النبوءة" تجعل من المستحيل إثبات خطأ ادعاء النبوءة المحققة.
ماذا عن عيسى؟ كان ظهوره على الأرض "نبوءة" ثم ظهر، أليس كذلك؟ حسنا، ليس بالضبط. أين كانت النبوءة وأين كان أدعاء تحققها؟ كل ذلك موجود في الكتاب المقدس، كتاب واحد. لا توجد سجلات تاريخية تثبت أحداث حياة عيسى غير الكتاب المقدس. لا يوجد أي مصادر أخرى تتضمن قصة ولادته البكر وقيامه من الموت. إن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد لدينا للتنبؤات حياة عيسى، لذلك ليس من المعقول أن يذكر الكتاب نفسه كدليل على أن التنبؤات أصبحت حقيقية. لنفترض أني أعطيتك كتابا وقلت لك أنه من الواضح جداً أن القصة حقيقية بسبب وجود نبوءة لشيء ما في الفصل 1 تحققت في وقت لاحق في الفصل 25. بناء على ذلك فقط، هل ستكون مقتنع بأن هذا الكتاب واقعي؟ بالطبع لا. سيكون من المرجح أنك ستستنتج أن المؤلف كتبها على هذا النحو من أجل أن يجعل القصة كما أرادها أن تكون.
إن أي شخص يعتقد أنه من المعقول قبول ادعاءات التكهنات وتحققها من نفس الكتاب أو القصة عليه أولاً تجرع مجموعها أكثر بكثير من هذه الادعاءات حتى يكون ادعاءه متماسكاً، بما في ذلك آلهة الإغريق القديمة. هل سمعت مسبقاً بعرافة مدينة دلفي؟ هي كاهنة توقعت أحداث مستقبلية بدقة عدة مرات، على الأقل، وفقاً لقصص مكتوبة منذ أكثر من ألفي سنة. وفقاً لمعايير المؤمنين بالنبوءات اليوم، فإنه يجب أن تكون العرافة، بطريقة سحرية، على وفاق مع جبل أوليمبس (جبل اعتقد الإغريق أن آلهتهم تعيش فوقه)، والذي، بالتالي، لا يمكن أن يعني سوى أن الآلهة اليونانية حقيقية.
لسبب ما، يتحول أتباع دين ما إلى شكوكيين أشداء عندما يطلعهم أتباع الديانات الأخرى عن نبوءاتهم المتحققة. ولهذا السبب لا يتحول المسيحيين إلى الاسلام بعشرات الملايين من الأفراد حينما يسمعون عن نبوءات النبي محمد والإسلام بأن نهاية العالم قريبة وأن علاماتها ظاهرة في كل مكان حولنا. هذا هو السبب نفسه الذي يجعل الملايين من المسلمين لا يعتنقون المسيحية، بالرغم من كل النبوءات "المحققة" الواردة في الكتاب المقدس و"الإشارات الواضحة" على أن عيسى على وشك العودة بعد أن صلب.
مثل معظم الملحدين الآخرين، لست مجنون ولا أحب الألم. صدقوني، أنا لا أريد أن أعاني في جحيم أي إله كان إلى الأبد. إذا كان هنالك تنبؤ دقيق ومفصل واحد فقط، جاء صحيحا ويمكن تفسيره فقط بأنه عمل إله، لا يهم إذا كان في الكتاب المقدس، القرآن، التوراة، البهاغافاد غيتا، الديانيتكز [كتاب لطائفة مسيحية تدعى ساينتولوجي أنصح بالقراءة عنها]، مذكرات ديفيد كوريش (زعيم ديني أمريكي ادعى أنه آخر الأنبياء) وهلم جرا، فلن أتجاهل أو أنكر ذلك. إذا كان الآلهة حقيقيون، ويريدون إقناع كل واحد منا عن طريق نبوءاتهم، إذا لماذا لا تجعل التنبؤات واضحة للجميع، بما في ذلك الشكوكيين؟ تخيل، على سبيل المثال، أنه تم اكتشاف كتاب مقدس في التسعينات (1990s) واحتوى على هذه النبوءة القديمة بعد أن تم التأكد من أنه يعود لأكثر من ثلاثة آلاف سنة:
في سنة ستسمى بـ 1969 من قبل أناس الغد، سوف يصعد رجلين يدعيان نيل وبز إلى القمر وسيسيران على سطحه. طير معدني اسمه النسر سيكون بمثابة عربة لهم، وسوف يقومون بشيء ما يدعى EVA بينما يرتديان الأبيض. سيكون على رؤوسهم قبعات كبيرة قوية. سوف تحمي عيونهم دروع من الذهب. وسيهتف أهل الأرض لهم من بعيد. عند عودة الرجلين، بالإضافة إلى شخص آخر يدعى مايكل، سيصرخ العديد بالاسم أبولو. وسيبتم الرب حينما يرى علمهم مرفوعاً على سطح القمر.
الآن، إذا استطاع مؤمن أن يظهر لي نبوءة بهذا النوع من التفصيل، فأنا معهم على مركب دينهم. سجل اسمي مباشرة. ولكن مثل هذه التنبؤات ليست موجودة. فالتي لدينا غامضة جدا، أو يمكن بسهولة أن توضح كأحداث قابلة للحصول من دون تدخل إلهي. لجعل الأمر أسوأ، يدافع بعض المؤمنين عن الطبيعة الغامضة للنبوءات. يقولون إن إلههم يريد بهذه الطريقة امتحاننا وأن تكون هناك حاجة للإيمان من أتباعه. فإذا جعل الله منها امراً واضحاً، فسيكون من السهل جداً أن نصدق ولن يكون هنالك امتحان، كما يقولون. إن كان الدليل على الاعتقاد بحاجة لإيمان، وكان الإيمان اعتقاد من دون دليل، فأين الدليل على الاعتقاد بالضبط؟ أليس هذا منطق دائري؟ ألا يعني هذا ما ذكرناه سابقاً بأنك بحاجة لتكون مؤمن بصحة الدين أولاً لتصدق ما يسمى بالنبوءات "المحققة"؟ ولكن لماذا لا يريد الإله إلا السذج من الناس ليؤمنوا؟ لماذا جعل لنفسه وجوداً غامضاً جدا وغير محتمل لدرجة يبدو كما لو أنه يريد أن يخدع أولئك الذين يفكرون بشكل نقدي ويطرحون الأسئلة؟ لماذا يعطينا الله عقولاً قوية وثم يمنعنا من الجنة إن استخدمناها؟
in average
are photos
are videos
are texts
are gifs
are audio